الفلسطينيون والنهضة الاذاعية العربية ... بقلم : صقر ابو فخر

2/24/2012 8:24:00 PM

 

 

في فلسطين ظهرت إذاعة عربية بعد الإذاعة المصرية التي امتلكت الأثير في 21/5/1934، بدأ إرسال إذاعة القدس في 30/3/1936، وكانت تحتل غرفتين فقط في فندق بالأس في القدس، ثم انتقلت الى شارع مأمن الله  (ماميلا) في سنة 1939. أما أول صوت صدح في مذياعها فكان صوت شاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان صاحب نشيد "موطني". ومن إذاعة القدس بدأ المطرب المصري محمد عبد المطلب رحلته مع الفن، واكتسب من خلالها شهرة وخبرة قبل ان يعود الى مصر ويصبح واحداً من أكثر الأصوات الغنائية جمالاً. وفي رحاب هذه الإذاعة برز عازف العود المصري عبد الفتاح منسي وهو شقيق العازف أنور منسي زوج المطربة صباح، وكذلك الملحن اللبناني المعروف فيلمون وهبي، وتولى الموسيقار يوسف بتروني، وهو فلسطيني من أصول لبنانية قيادة أوركسترا الإذاعة، فيما كان يحيى اللبابيدي يقود الفرقة الموسيقية. ويحيى اللبابيدي فلسطيني من مواليد عكا، وهو من جذور لبنانية، واشتهرت أغنية "يا ريتني طير" التي غناها فريد الاطرش في مطلع حياته الفنية. على ان الإذاعة التي كان لها شأن كبير في فلسطين، وفي بعض البلدان العربية المجاورة، كانت "إذاعة الشرق الأدنى من دون منازع. ولنا في هذا المجال تفصيل وكلام. شيء من التاريخ

في سنة 1931 بدأ الاتحاد السوفياتي وفرنسا البث الاذاعي باللغة العربية، فحذت  بريطانيا حذوهما، وشرعت هيئة الاذاعة البريطانية (BBC) تبث بالعربية في 3/1/1938، وكانت العربية أولى لغات هذه الاذاعة بعد الانكليزية، وكان المذيع البارز فيها عيسى صباغ من فلسطين. غير ان بريطانيا لم تلبث، في سنة 1943، أي في معمعان الحرب العالمية الثانية، ان أسست "إذاعة الشرق الأدنى"، وكان مقرها في جنين أولاً، ثم انتقلت الى يافا ثم الى القدس في سنة 1947.

صحيح ان هذه الإذاعة كانت تابعة لوزارة الخارجية البريطانية، لكن جهازها البشري كان عربياً ومناهضاً للاستعمار والصهيونية معاً فقد عمل فيها لبنانيون أمثال الصحافي سليم اللوزي، ومصريون أمثال الشاعر عبد الرحمن الخميسي، فضلاً عن أن الفرقة الموسيقية كانت تضم عازفين من فلسطين وسوريا ولبنان ومصر. وكان من بين أشهر العاملين في هذه الإذاعة صبري الشريف ونجاتي صدقي ورشاد البيبي وغانم الدجاني وصبحي ابو لغد واحمد جرار وعبد المجيد ابو لبن وكامل قسطندي. ثم أن هذه الإذاعة لم تتورع ، في سبيل تطور برامجها، عن استقدام عبقري البزق محمد عبدالكريم من دمشق، فضلاً عن مطربين من لبنان أمثال صابر الصفح وإيليا بيضا وعامر خداج، ثم انضم اليها علي عصام مراد.

 

القصة الحزينة                                     

حين اشتد القتال بين العرب والصهيونيين غداة صدور قرار التقسيم في 29/411/1947، صار من غير الممكن استمرار إذاعة الشرق الأدنى في علمها بالصورة المعتادة، وبدأ التفتيش عن بدائل من موقع الإذاعة الذي بات في خطر حقيقي وداهم. ولم يكد منتصف آذار 1948 يمضي حتى كان معظم العاملين فيها قد انتقل مع أُسَره الى قبرص بحراً عبر ميناء حيفا. وكان الصراع النفسي ينتاب الجميع، وراحوا يتساءلون: ماذا حدث لبلادنا؟ كيف تركناها؟ هل سنعود إليها قريباً، ماذا سنفعل الآن؟

في ليماسول بقبرص كان رشاد البيبي يستقبل هؤلاء المهاجرين، ثم يرتب لهم أمر انتقالهم الى منطقة "بوليميديا" حيث أقيم على عجل مقر فيه معدات إذاعية جاهزة للبث. وقد وصل عدد العاملين في ليماسول الى نحو 70 موظفاً عدا عن المراسلين في العالم العربي، وعدا عن الذين سافروا الى بيروت والقاهرة لافتتاح مكاتب للاذاعة أمثال أحمد جرار الذي أسس مكتباً للاذاعة في شارع فينيسيا في بيروت، وسيد بدير الذي أدار مكتب القاهرة من منطقة ماسبيرو. وفي ليماسول تولى محمد الغصين الادارة العامة، وتولى صبري الشريف وغانم الدجاني تنفيذ الاعمال الموسيقية.

استمرت الاذاعة بالعمل، وكانت من أقوى الاذاعات التي تبث بالعربية، طوال المرحلة التي أعقبت النكبة، أي منذ سنة 1948 حتى سنة 1956. لكن، في 30//10/1956 وقع العدوان الثلاثي، البريطاني – الفرنسي – الاسرائيلي، على مصر. وفي 1/11/1956 قصفت الطائرات البريطانية أجهزة الاذاعة المصرية قرب القاهرة. وفي تلك الاجواء المفعمة بالترقب والاستنفار قدّم جميع الموظفين العرب في الإذاعة استقالاتهم احتجاجاً على الموقف العدواني البريطاني، وأعلنوا على الهواء وقوفهم الى جانب مصر ورئيسها جمال عبد الناصر. وكان المذيعون يهتفون على الهواء مباشرة "عاشت فلسطين". وعند ذلك اقتحم جنود بريطانيون الموجودون في قاعدة أكروتيري القبرصية استديوهات الإذاعة بالقوة، وأجبروا المذيعة مسرة فاخوري على إذاعة أخبار ضد مصر والعرب، فأذاعتها وهي تبكي. وبإستقالة العرب من الإذاعة  اندثرت وصارت قصة تُروى.

 ماذا حل بهم؟                               

توزع بعض الموسيقيين والعازفين الذي كانوا يعملون في اذاعة الشرق الأدنى على الإذاعات العربية منذ النكبة الفلسطينية في سنة 1948، ولحق بهم في سنة 1956 من كان في قبرص. وهؤلاء جميعاً اسهموا في النهضة الموسيقية العربية اللاحقة. وعلى سبيل المثال التحق بالإذاعة اللبنانية عدد من العازفين الفلسطينيين أمثال فرح الدخيل وعبد الكريم قزموز وميشال بقلوق ورياض البندك (انتقل لاحقاً الى دمشق) واحسان فاخوري وحنا السلفيتي وفريد السلفيتي، ثم المطرب محمد غازي. وفي ما بعد التحق بها نبيل خوري وشفيق الحوت، علاوة على الموسيقار حليم الرومي والعازف عبود عبد العال. وانضم الى إذاعة دمشق يحيى السعودي ويوسف البتروني ومحمد عبدالكريم، والى إذاعة بغداد ذهب روحي خماش ومحمد الغصين وصبحي ابو لغد وعبد المجيد ابو لبن وسميرة عزام ومحمد كريم. وذهب غانم الدجاني الى السعودية وفؤاد حداد الى محطة الاذاعة البريطانية (BBC)، وأسس كامل قسطندي شركة في بيروت للانتاج الاذاعي، وتولى صبري الشريف مسرحيات الأخوين الرحباني كلها تقريباً وأصدر سمير الشريف (شقيق صبري) في بيروت ايضاً مجلة إذاعية باسم " الشرق الأدنى"، تولى رشاد البيبي تحريرها، وكتب فيها مارون عبود وموسى الدجاني وسميرة عزام وعباس محمود العقاد وطه حسين وسهير القلماوي ونقولا زيادة وفؤاد صروف وآخرون. ولاحقاً أسس غانم الدجاني " الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية" بتمويل من الفلسطيني بديع بولس، ثم أسس بديع بولس نفسه استديو بعلبك للسينما في سنة 1958، وفرقة الأنوار في سنة 1959. والمعروف أن عبد المجيد ابو لبن هو من اكتشف شخصية "إم كامل" التي جسدها الفنان السوري أنور البابا ( عم سعاد حسني ونجاة الصغيرة)، وشخصية "أبو صياح" التي جسدها الفنان السوري رفيق السبيعي.

              

خاتمة المطاف

بعد انتهاء احداث 1958 وصلت الى منزل غانم الدجاني في بيروت سيارة جيب عسكرية، وكذلك وصلت سيارتان اخريان الى منزلي صبحي ابو لغد وعبد المجيد ابو لبن. وطلب اليهم "صاحب الأمر" العمل في الإذاعة اللبنانية والإشراف عليها وتطويرها. وكان صاحب الأمر هو الضابط اللبناني أحمد الحاج؛ فقد سمع عن هؤلاء المميزين، وأراد ان يستفيد من خبراتهم التي اكتسبوها في إذاعة الشرق الأدنى. وكان سبق هؤلاء الى الإذاعة الفلسطينيان إيلي فاخوري وحليم الرومي وكذلك محمد كريم، وهو لبناني عمل سابقاً في إذاعة الشرق الادنى، وأدخله الفلسطينيون معهم الى الاذاعة اللبنانية، وتولى في ما بعد اخراج برنامج "شامل ومرعي" الذي اشتهر كثيراً آنذاك. ثم التحقت بالجميع المذيعة ناهدة فضلي الدجاني. وهكذا كانت للفلسطينيين شأن مشهود في نهضة الاذاعات العربية المختلفة ولا سيما في بيروت دمشق وبغداد. 

تم طباعة هذا المقال من موقع تلفزيون نابلس (nablustv.net)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)