تلفزيون نابلس
الانحياز للمدينة
10/15/2017 6:24:00 PM

بقلم : أحمد البيتاوي - أحب في المدينة عراقتها وانفتاحها وحداثتها وتدين أبنائها وجمال حديثهم واختيارهم للكلمات والخصوصية التي تمنحها لأفرادها.. وأحب في القرية صفاء جوها ونقاء نسيمها وطيب ثمرها وخضرتها وجمال مناظرها الطبيعية وتكافل أبنائها.. وأكره في المدينة ازدحامها وصخبها وتلوث هوائها وأنانية أبنائهم وبخلهم.. وأبغض في القرية حسد أبنائها لبعضهم وقسوة قلوبهم وتعصبهم وظلم بعضهم للأنثى، هكذا هي الحياة وهكذا هي التجمعات الانسانية مزيج من الايجابيات والسلبيات وخليط من المزايا والعيوب..

ولكن في النهاية اعترف أن حبي لنابلس فاق حبي لقرية بيتا، مسقط رأس والدي، فالأولى لم يكن عشقي لها فطرياً وحسب، فنابلس بالنسبة إلي مدينة الماضي والمستقبل.. مدينة اليوم والغد.. مدينة البلدة القديمة التي عندما تتجول في أزقتها وأحوشها القديمة تشعر أنك امتلكت الدنيا وما فيها .. تشعر أنك امتداد لأجداد عظماء وتراث ضارب في جذور التاريخ.. عندما ترى مساجدها القديمة كالنصر والبيك والحنبلي والكبير وحماماتها التركية وصباناتها ومقاماتها الدينية تترحم على أيام الدولة العثمانية وخلافتها، أعرف أن البعض يحمل انطباعات سلبية عن هذه الإمبراطورية ولكنها ورغم ما يسجل عليها من ملاحظات تبقى أفضل حالاً بألف مرة عن ما وصلنا اليه اليوم من ذل وضعف وتفكك.

عندما تتجول في أزقة البلدة القديمة وخاناتها التجارية تختلط رائحة القهوة الكنعانية مع رائحة الكنافة والحلويات مع رائحة الشواء والبخور والبهارات مع الروائح المنبعثة من أفران الحطب العربية ومعامل الطحينة والقزحة والحلاوة والراحة، مع أصوات الباعة الجائلين كل ينادي على بضاعته بعبارات رائعة تجبرك على التوقف أمام محلاتهم وعرباتهم المتنقلة، تتوقف ملياً أمام صانع الطمرية يطويها ببراعة وخفة، والعوامة يقلبها في الزيت الحار بمهارة وسرعة، وصانع الخبر "الرخو" وهو يعجنه ويقذفه في الهواء وكأنه في استعراض بهلواني.. أما لفات "الزلابيا" البرتقالية فلا يعرف طعمها الا من ذاقها.. ولا يكتمل المشهد في ساعات المساء إلا مع صوت أغاني أم كلثوم تنبعث من "الراديهوات" القديمة في المقاهي التاريخية ممزوجة مع صوت قرقعة "النارجيلة" وأحجار طاولة الزهرة...

حين تهم بالدخول إلى البلدة القديمة من مدخل سوق البصل، ترى الباعة يقفون أمام محلاتهم العتيقة وبسطاتهم الصغيرة على جانب الطريق يميناً وشمالاً كحراس شرف يستقبلون أحد الملوك والوزراء، في أول الطريق تجذبك أنواع الأسماك وأشكالها الممدة على صناديق بلاستيكية تعلوها أكوام من الثلوج، بجانبها تبدو بسطة كبيرة يتكوم فوقها "ضمات" من البقدونس والنعنع والجرجير والكزبرة والخس في لوحة خضراء يانعة، على مقربة منها يقف بائع عصير التمر هندي مرتدياً لباس "العرضة الشامية": طربوش أحمر.. سترة مقصبة مطرزة.. شروال غوار.. يحمل قارورته الفضية الكبيرة ويسكب منها كأسا في إثر آخر للزبائن المصطفين أمامه يطفئ حر حناجرهم ويبرد ريقهم الجاف..

عندما تواصل اختراق السوق تحتار عينيك على أي الأصناف تحط، تمور وحلويات.. مخللات ملونة.. بعدها بأمتار تبدو أحد محلات اللحوم، ذبائح الخراف والعجول معلقة على بابها، صاحب المحل خمسيني ذو قامة طويلة وشارب مبروم يحمل ساطوره الكبير الحاد ويقطع اللحمة من المكان الذي يشير إليه الزبون، بين رجليه مجموعة من القطط تتصارع على ما يلقيه من بقايا اللحم والدهن، بدت القطط سمينة مختلفة عن قطط الشوارع المشردة، آخٍ على القطط السمان ما أجشعهم وما أفسدهم..

تُعرف نابلس بين أقارنها في فلسطين بكثرة مساجدها وحب أبنائها لرسول الله عليه السلام الذي يوجد بعض من شعرات رأسه الشريف في مسجد الحنبلي، في يوم ذكرى مولده تتزين شوارع المدينة وحاراتها كعروس حسناء في يوم زفافها، وتسمع الأناشيد والمدائح الصوفية يتردد صداها في جنباتها، فيما ينهمك التجار والباعة بتوزيع الحلويات على المارة الذين يتسابقون للحاق بمواكب الفرق الصوفية في إنحاء المدينة، في مشهد احتفالي كرنفالي كأنه يوم عيد ثالث..

عندما تنظر لنابلس من علٍ ترى جرزيم وعيبال يقفان بشموخ وكبرياء، هذا الجبلان لا يخنقان المدينة كما يعتقد البعض بل يحضنانها ويحميانها، يحضنانها بحرص كطفل ويحميانها بقوة كملك.. على رأسيهما تبدو بقايا أشجار حرجية أسقط غالبيتها "ثعلبة" النقاط العسكرية الإسرائيلية، جرزيم وعيبال لم يشيخا بعد غير أن الاحتلال كبرهما قبل أوانهما.


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة