تلفزيون نابلس
عادات رمضانية اليوم التاسع والعشرون من شهر رمضان 2024
4/8/2024 4:43:00 AM

"توحيش" رمضان.. عادة قديمة في وداع الشهر الفضيل

 

إذا جرت العادة عند المسلمين أن يحتفلوا باستقبال شهر رمضان المبارك بالحفاوة والتكريم وإقامة مظاهر الفرح والسرور للتعبير عن ترحيبهم بإطلالته بعد طول شوق وانتظار، فقد جرت العادة في المقابل، أن يودعوه بالحفاوة والتكريم نفسهما في العشر الأخيرة إنما بمظاهر الألم والحزن والتحسّر لقرب رحيله. فالعشر الأخيرة من رمضان كان يسمى "أيام التوحيش"، وكلمة التوحيش من الوحشة التي يشعر بها الصائم لمفارقة شهر رمضان.

وكانت فترة "توحيش" رمضان (العشر الأواخر تتميز بالإجتهاد في العبادات، سيما وأن في العشر الأخير من رمضان تكون ليلة القدر المباركة، وذلك تقرباً من المولى، وطمعاً ببركاتها التي لا تعد ولا تحصى...

وتعتبر عادة "التوحيش" عادة قديمة تختلف من بلد لآخر، ولكنها تجتمع في كونها صورة من صور إظهار الحزن والأسى على فراق شهر رمضان.

عادات أهل مكة:

في الحرم المكي الشريف كان يحتفل بالعشر الأواخر من رمضان المعظم، كان يُختَم القرآن الكريم في كل وتر في الليالي العشر الأواخر بحضور القاضي والفقهاء.

ويشير ابن جبير في رحلته "اجتهاد المجاورين للحرم الشريف" الى ليلة إحدى وعشرين بقوله: ..."فأولها ليلة إحدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيباً، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور الى منزله الى طعام وحلوى قد أعدهما واحتفل فيهما".

ثم يتطرق الى ليلة ثلاث وعشرين فيقول: "وكان المُختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاماً لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالاً بديعاً. وذلك أنه أعد له ثرياً مصنوعة من الشمع مغصنة، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد لها شمعاً كثيراً، ووضع في وسط الحرم مما يلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة، قد أقيم على قوائم أربع، ورُبطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسُمّر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غُرز".

عادات المصريين:

ومن العادات التي جرت في مصر توديعاً لشهر رمضان أداء صلاة آخر جمعة من شهر الصيام "الجمعة اليتيمة" في جامع عمرو بن العاص، علماً أن المسجد المذكور بقي معطلاً نحو مئة سنة، لكن الناس كانوا يقصدونه يوم الجمعة الأخيرة من رمضان للصلاة والتبرك.

لا أوحشَ الله منك يا رمضان؟:

كذلك كان يقترن "توحيش رمضان" بإطلاق المؤذنين ومن على مآذن ومنازات الجوامع، وكذلك "المسحراتيون" أناشيد توديع رمضان، التي تحمل في ملماتها ونغماتها الشجن والحزن على قرب إنقضاء الشهر الكريم...

فقد اعتاد مؤذنو المساجد والجوامع في الأيام الأواخر من شهر رمضان الكريم، أنْ يودعوه بكلمات ذات نبرات مؤسية، ونغم حزين، لها وقعها على آذان السامعين، حيث يكون الضيف الكريم قد جهزّ نفسه ليودعنا بعد أن حلّ بين ظهرانينا حاملاً معه الخير والعطاء، والأجر والثواب وهو أكرم الشهور، شهر الله وشهر القرآن المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.  وقد رددّ المؤذنون من المأثور عن الوداع- التوحيش- قائلين:

لا أوحشَ الله منك يا رمضان؟

لا أوحشَ الله منك ياشهر القرآن

لا أوحشَ الله منك ياشهر الصيام

لا أوحشَ الله منك ياشهر القيام

لا أوحشَ الله منك ياشهر الكرم والجود

لا أوحشَ الله منك ياشهر الولائم

لا أوحشَ الله منك ياشهر العزائم

الحامولي "يوحش" من مأذنة "سيدنا الحسين":

نشير إلى أن الفنان المصري عبده الحامولي حريصا عقب آذان العشاء أن يصعد إلى منارة جامع مولانا الحسين في القاهرة وينشد من التسابيح والتواحيش، إذ كانت العادة قد جرت في ذلك الزمان ان تؤدي من أعلي مآذن القاهرة‏،‏ فكانت الساحة الممتدة أمام الجامع والمشربيات والشرفات تحتشد بالناس‏، مستمتعين بفن الحامولي وصوته الفريد ينساب الي المسامع بكل الوقار.

المسحراتيون:

ولا يقوم بهذا التوحيش المنشدون المحترفون فحسب، بل يلجأ المسحراتي إلى تغيير موضوعات أدائه أثناء جولاته إلى التوحيش، كما يملأ المؤذنون المنشدون فضاء الحي بتوحيشهم الذي يواصلونه من الإمساك حتى آذان الفجر. ولهذا صار التوحيش وأساليب إنشاده مجالاً للتجويد والتنويع والتنمية سواء في نظم عباراته أو في موسيقى أدائه. وصار أحد مجالات التقاطع الذي تلتقي فيه الثقافة الشعبية بالثقافة الرسمية.

وأبرز مظاهر ذلك الالتقاء أن معظم المنظومات التي تتردد في التوحيش كانت من الشعر الفصيح، كما أن موسيقى أدائها تتأسس على تقاليد الموسيقى العربية التقليدية.

زياد سامي عيتاني*:إعلامي وباحث في التراث الشعبي.


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة