تلفزيون نابلس
بعد أن باتت مملة وعديمة الجدوى ...حيثيات التوقف عن الكتابة في القضايا السياسية.
7/3/2019 1:01:00 PM

محمد خضر قرش- القدس - لم تعد الكتابة في القضايا الوطنية العامة وخاصة السياسية منها، تلقى الاهتمام الذي كان سائدا في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات الذهبية.ففي وسط بيئة مهزومة ومناخ فاسد وفي ظل مرحلة يغلب عليها النفاق والتزلف والكثير من التخاذل والوقاحة والكذب والعهر السياسي، لا تمكن ولا تتيح الكتابة بأمان وحرية وبمهنية.

فالحاكم والجوقة المحيطة به ليسوا على استعداد لِتَقبُل الرأي الآخر، مما حدً مع الزمن إلى انصراف الناس تدريجيا وعزوفهم عن القراءة وانعدام ثقتهم بأنظمة الحكم وبمعظم ما يُكتب. فالحكومات العربية والمؤسسات المرتبطة بها تسيطر على معظم وسائل الاعلام، والتي لا تقدم أي جديد جدير بالقراءة، مما أدى إلى ابتعاد المواطنين عن قراءة المقالات والتحليلات السياسية.

فالكُتاب باتوا ملزمين بدفع الجزية للحاكم مقابل السماح بمواصلة الكتابة. والجزية هنا ليست مادية وانما عبارة عن مقالات مديح وتسبيح بأمجاد الحاكم ومؤسسات الدولة.

ولا بأس أحيانا من نقد هذه المسؤول أو ذاك ضمن السقف المتاح والمسموح به دون الاقتراب من رأس السلطة.

ولعل من اسباب العزوف او عدم الاهتمام بالقراءة ،قيام العديد من المؤسسات السيادية (وهو لفظ مستحدث يشير الى اجهزة المخابرات بأنواعها) بتجنيد كُتابِ يكتبون ما يحب أن يسمعه أو يقرأه الحاكم وليس ما يجب أن يقرأه وينتبه إليه.

ولهذا السبب إلى جانب عوامل أخرى، انخفض توزيع الصحف الكبرى انخفاضا غير مسبوق. وتراجع توزيعها كثيرا، لأن القُراء من كل الطبقات والمستويات وخاصة الوسطى منها لم تعد تجد أي جديد يمكن إضافته إلى المعلومات الموجودة لديهم من معظم المقالات.

 فما تكتبه الصحف مكرر ومضيعة للوقت وخاصة بعد انتشار شبكات التواصل الاجتماعي والصحف والمواقع الاليكترونية. فالذي يطًلع على ما تعالجه وتكتبه الصحف الورقية قبل عقدين يجده متطابقا لما يُكتب حاليا (يمكن مراجعة صحيفة القدس المقدسية قبل 20 عاما على سبيل المثال لا الحصر لكونها متاحة امامنا يوميا). فالكتابة باتت غير مجدية والعديد منها لم يعد مقروءا ولا يخلق تفاعلا في المجتمع عدا عن مقالات قليلة اغلبها لا تتناول او تتطرق لمواضيع سياسية.

فالمنظومتان السياسية الاقتصادية في كل الوطن العربي دون استثناء مهزومة ومأزومة وجاهلة وبعضها يتساوق مع رغبات المستعمر واعداء الوطن. وفي الكثير من الحالات غبية وصبيانية السلوك والتصرفات كما هو الحال في دول الخليج العربي.

فالنظام العربي قائم إما على التوريث المباشر (انظمة المشايخ والامراء والملوك بدون سند او استفتاء أو تخويل أو موافقات شعبية قديمة أو حديثة) أو القسري كالجمهوريات الدكتاتورية الفردية كسوريا ومصر والسودان وليبيا واليمن سابقا او الطائفية المذهبية كما هو حال لبنان والعراق الذي انضم إلى هذه المجموعة بعد الغزو الأميركي اللعين عام 2003.

فالكتابة السياسية بما في ذلك الاقتصادية وحتى الثقافية في امارات ومشايخ الخليج كلها باستثناء بسيط ومحدود في الكويت يجب ان تتجانس بل وتتطابق مع ما يدور في خِلدِ حاكمها المتخلف والجاهل والمهوس بالجنس والمال الملتصق بالكرسي، التصاق ذباب الفرس بمؤخرته. وفي انظمة الجمهوريات الدكتاتورية يجب ان تركز الكتابة على الوحدة الوطنية والتصفيق الدائم والمطول للقائدالجهبذ، باعتباره حامي حمى الوحدة الوطنية. ومن يخالف ذلك تسفك دمائه ويعتقل ويوارى خلف الشمس بحجة معارضته للوحدة الوطنية برمزها الاستثنائي وغير المكرر والمُخَلص والمُلهم.فهذا (القائد الرمز) الذي جاء في معظم الحالات على دبابة عسكرية او عبر انتخابات مزورة بنسبة 99% (والغالبية العظمى لهؤلاء لم يكونوا من الطلبة المتفوقين في مراحل الدراسة بما فيها الجامعية إن بلغوها، بل كانوا يحصلون على علامات متوسطة وضعيفة).

فالرؤساء والحكام يتمتعون بامتيازات ومزايا وتبجيل،الانبياء المنزهون والمرسلون من رب العالمين لم يحصلوا عليها. ففي انتخابات جرت في العراق قبل الغزو، حصل الرئيس القائد البطل المهيب الركن الرفيق المناضل صدام حسين على 100% من الاصوات!!(بالمناسبة هذه هي الصفات والالفاظ التي كانت تسبق ذكر أسمه في وسائل الاعلام العراقية).وهذا يجب ألا يعني ابدا، أن الذين استلموا الحكم بعده هم أفضل منه؟ فجميعهم جاءوا بصحبة دبابات الاحتلال الأمريكي وبحمايته حتى تاريخه.بل هم أكثر فسادا وعمالة وطائفية ومذهبية من الدكتاتور صدام. فالجزية التي يدفعها أغلب الكتاب هي ترديد ما تقوله الحثالات الفاسدة والمفسدة المحيطة بالرئيس الرمز حتى وان كان الكُتاب لا يؤمنون بها. فهؤلاء يمكن وصفهم بدون استثناءات ذات قيمة،بنزلاء الحظيرة المحظية والمنتفعة والمتخمة كروشها والفارغة عقولها والضعيفة الانتماء وطنيا. وحين يقوم الكاتب بذلك (أي دفع الجزية) تفتح له أبواب الانتفاع والامتيازات والحظوة بالاقتراب من الرئيس أو الحاكم وتتدفق عليه المناصب والجوائز وبدلات التمثيل وعضوية اللجان ونشر إصداراته المسمومة. وبالمناسبة فإن ما ينطبق على أغلبية الكتاب والصحفيين والمثقفين ينطبق على المستشارين ورجال الدين (شيوخ السلاطين) الذين يُحَرمون الحلال ويُحللون الحرام ويفتون بكل ما هو مخالف للشرع ولصحيح الدين.

فمن خلال تكرار نشر المقالات المسمومة يتسع ويزداد النفاق والكذب والفساد والثراء غير المشروع وتنتشر ظاهرة الثقافة السوداء (ثقافة التجهيل) ويتبعها او يرافقها الروايات والقصص الهابطة، تطبيقا لنظرية “الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقة الحاكمة". وبالضرورة تنتشر مسلسلات وافلام الاسفاف والسخافات والتسطيح المتعمد لقضايا الوطن والمجتمع،مما يُسهل تقويض المنظومة الثقافية والمناعة الوطنية بمجملها وتُحد أو تُضعف من ولاء المواطن العربي لوطنه. وبسبب هذه الثقافة القائمة على التمجيد والتسبيح بشخص الحاكم وتعليق ونشر صوره وتماثيله في كل الحارات والشوارع والميادين والمطارات والموانئ ومؤسسات ووزارات الدولة،بغرض تكريس ديكتاتوريته وحصر الولاء له بالدرجة الاولى.

ولتعزيز ما تقدم رُفعت شعارات ديماغوجية مثل " الله الوطن الرئيس" في العديد من الدول العربية، والتي باتت بلا معنى وبلا قيمة.فالولاء للحاكم والرئيس الرمز والقائد الفذ بات يشكل شرطا للمواطنة الصالحة أو من صفات المواطن المهذب والعاقل؟ وبالمناسبة فإن هذا الشعار معروض ومعلق عند معظم نقاط الحدود، عدا لبنان والعراق حاليا لأسباب طائفية ومذهبية ليس إلا. ولكون الله في السماء وغير مرئي أو مشاهد ماديا للمواطنين ولا يتم مخاطبته مباشرة ولا يتدخل في أعمال وأقوال وتصريحات الرئيس وسلوكياته فلايشكل وضعه كرقم واحد أي منافسة لجبروت وسلطان واستكبار الحاكم. فلا بأس والحالة هذه من أن يتصدر شروط المواطنة. أما ترتيب حب الوطن كأولوية تالية لحب الله فقد تم اختزالها باشتراط حب الرئيس باعتباره ممثلا للوطن وحاكما له، فلا ضير من وضع حب الوطن كرقم ثاني. لأن قاعدة الحكم والدكتاتورية تقول: من لا يحب الرئيس (الحاكم) لا يحب الوطن. فهما تؤامان أو شخصان في ثوب واحد. فمحظور عليك ان تحب الوطن وتكره الرئيس(الحاكم) بذات الوقت.بل عليك ان تحب الرئيس ولا ضير إن سرقت اموال الوطن وفسدت ونهبت خيراته وبددت موارده. فحب الرئيس والتسبيح بحمده تعفيك من المساءلة أو المحاسبة.فالالتفاف حول الرئيس ودعمه ومساندته تعني دعم الوحدة الوطنية والصالح العام. فالسادات (وكل من جاء بعده) اعتقدوا أن من ينتقد افعالهم كأنه يهاجم مصر ويقف ضدها. وكنتيجة فقد تم اختزال شروط المواطنة الصالحة بحب الرئيس والالتفاف حوله ودعمه وتأييده والصمت على هزائمه المتكررة وفساده وسرقته للمال العام وتغول حاشيته أو حظيرته على حقوق وإنسانية وآدمية المواطنين. وكمثال آخر من سوريا في العقود المنتهية في العام ال 2000 كانت ترفع يافطات محفورة على المؤسسات العامة والساحات والشوارع تقول "قائدنا للأبد الرئيس حافظ الأسد “وفي دول مثل مصر والعراق وليبيا سابقا كانت توضع عبارة " بايعناك إلى الأبد". علما بأن أي نبيً أو رسول لم يحظ بما يحظى به الحكام من كل الجوانب عدا الايمان والتقوى والأمانة والعدل والنزاهة، فهذه الصفات لا تمت للحكام بصلة بل هي عدوتهم الأولى.

تفكيك وسحق الطبقة الوسطى

كان لسبب تنامي واتساع هذه الظواهر المنفعية والانتهازية بالإضافة إلى انتشار الفقر وفشل برامج التنمية وتدني مستويات المعيشة والقمع الذي لحق بالفئات المثقفة والواعية منها، أن ضَعف نفوذ غالبية شرائح الطبقة الوسطى وتراخى تأثيرها وتراجع دورها التنويري والتثقيفي بعد أن كانت تشارك في الاحتجاجات الشعبية والنضالات الوطنية.

لقد تم تفكيك بنيتها الاقتصادية وتركيبتها الاجتماعية بما في ذلك خلخلة تجانسها فهوت إلى أسفل،وبالأدق تم زحلقتها من موقعها المؤثر في المجتمع وخاصة بعد ان تدنت مستويات معيشتها وانخفضت دخولها بشكل ملموس وباتت على وشك الاختفاء والالتحاق بالطبقات المعوزة.وقد ادى ذلك عمليا وميدانيا إلى تراجع تأثيرها على المستوى الوطني وقدرتها على إحداث التأثير أو التغيير.وقد حلًت مكانها فئات هامشية غير متجانسة وجاهلة وذات ثقافة ضحلة تفتقر إلى المقومات الوطنية والاجتماعية للمشاركة في النهوض بالمجتمع والتصدي لموجات الفساد ووضع حد للثقافة الهابطة التي بدأت تتسلل إلى بنية المجتمع بشكل ملموس.وباتت هذه الحثالات الإنكشارية، مثالا للانتهازية من خلال سرعة وصولها الى المواقع والمناصب. ولكونها غير متجانسة ورخوة وغير صلبة في مواقفها، وتنحدر من أصول دونية شتى، فقد اصبحت عبئا كبيرا على النضال الوطني. وقد تَكَوًنَ منها الجسم الاساسي لمؤسسات الدولة والسلطة والامن والجيش والقمع والمال. فولائها للحاكم، الذي اعطاها صلاحيات لم تكن تحلم بها قط.فهي المحظية والمحظوظة لدى مؤسسة الحكم. وقد حصلت على امتيازات ومكاسب لا تستحقها ابدا. لقد ادى تهميش وخلخلة أغلبية شرائح الطبقة الوسطى إلى حدوث تشوهات وظهور درنات ونتوءات ودمامل مُعدية في بنية المجتمع من الصعب ردمها او معالجتها بالوعظ والإرشاد والمقالات. فالحثالات الإنكشارية غير معنية بالعدالة وبالحد من الفساد ووقف التطبيع مع الأعداء، كما انها باتت تشكل ابواقا ترويجية لمؤسسة الحكم. لقد تقوس العمود الفقري للمجتمع واحدودب، ولم يعد بمقدور ما تبقى من شرائح الطبقة الوسطى لوحدها من تصحيح ومعالجة التقوس الحاد احيانا. فالقيم الجميلة والأخلاق الثورية والمعايير المهنية والتفاني في خدمة الوطن تم وأد معظمها، وحلَت مكانها الثقافة الإنكشارية المماثلة لثقافة واخلاق وسلوكيات رعاع المدن وقُطًاع الطرق وعربان الصحاري.ومن خلال تجارب العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن وتونس والسودان والجزائر حاليا، فإن هذه الحثالات الإنكشارية لا تلبث أن تتخلى عن ولي نعمتها المعزول أو المقتول أو المُقال أو المسجون أو الهارب مع أول حركة جماهيرية عفوية قوية.وتكون أول من يغادر قارب الحكم ولا تتردد في مهاجمته وتحميله مسؤولية الكوارث التي حلت في الوطن بما في ذلك الفساد والهزائم. لكنها لا تلبث أن تتجمع مجددا حول حاكمها الجديد. وحين يأتي الحاكم الجديد لا يرى امامه سوى نفس الحثالات فيضطر للتعامل معها والتي تكرر نفس ما كانت تمارسه مع ولي نعمتها السابق. وكنتيجة لكل ما سبق وخاصة امام ضعف وترهل الأحزاب التقدمية والوطنية والديمقراطية الحقيقية،فقد استفردت هذه الحثالات الإنكشارية بمراكز ومفاصل السلطة واخذت تصد وتضرب بقوة وبلا هوادة أي محاولة لنهوض للأحزاب المشار إليها. وفي سبيل ذلك فهي على استعداد للتعاون مع كل شياطين الجن والانس بما فيهم الأعداء المباشرين.بل أن بعض الأحزاب التقدمية التي كانت تتصدر صفوف النضال الوطني قد انهار واستسلم للأمر الواقع أمام هذه الحالة المؤلمة. فالحزب الشيوعي العراقي العريق، والذي قدم تضحيات كثيرة في سبيل عراق حر ووطن سعيد، لم يجد غضاضة في التعامل والاشتراك مع قوات الغزو التي اجتاحت العراق عام 2003 وان يكون ضمن القيادة المؤقتة التي شكلها بول برايمر الحاكم الأميركي للعراق. وما انطبق على الحزب الشيوعي العراقي انطبق تماما على بعض اشقائه بالأحزاب الشيوعية كفلسطين وسوريا، لدرجة ان جناحا مؤثرا في الحزب بالدولة الأخيرة حمل السلاح بوقاحة واشترك مع الإرهابيين بمقاتلة وتخريب وطنه وحصل على التمويل المشبوه من الغرب والامارات والمشايخ المتخلفة في الخليج وينطبق ذلك على الجماعات الإسلامية كلها.ولم تتوقف الانهيارات عند الأحزاب الشيوعية العربية بل وتعدتها إلى الحركات الوطنية والشخصيات التنويرية والديمقراطية كحركة فتح وحزب جبهة التحرير الجزائرية والعديد من أجنحة حزب البعث والاشتراكيين والمنصف المرزوقي وبرهان غليون خريج السوربون وغيرهما كثير جدا.ولقد نتج عن ذلك تشويه وتقويض الواقع الاجتماعي والاقتصادي لكل الدول العربية،فلم يعد بمقدور حزب بقواه الذاتية إعادة وضع الحصان في المقدمة لقيادة العربة الوطنية واستنهاض وتجميع عناصر القوة مجددا.

اللوحات السريالية المتناقضة

 لكل الحيثيات سالفة الذكر لم تعد الكتابة في القضايا السياسية والوطنية العامة مجدية بل هي في الحقيقة مقرفة جدا. فقد بتنا أمام لوحات سريالية تزداد غموضا مع الزمن وتحتاج الى منجمين وخبراء بالخطوط لفهم الخارطة السياسية والاجتماعية السائدة وتفسير خطوطها وتفكيك تداخلاتها.فعلى سبيل المثال لا الحصر، كيف يمكن تفسير موقف الرئيس الرمز، من مقاطعة دولة الامارات العربية وبذات الوقت إقامة علاقات فوق الطبيعية مع قطر الممول الرئيس لحركة الاخوان المسلمين وحماس العدوة اللدودة للرئيس ولحركة فتح؟ وكيف يمكن التحالف مع السعودية وإقامة علاقات مع تركيا عدوة الامارات ومصر وحليفة قطر وصديقة الاخوان المسلمين؟؟؟وبذات الوقت يستمر التنسيق الأمني المقدس مع الاحتلال والولايات المتحدة الأميركية ويتم قمع الحركة الشعبية الميدانية للاحتلال واعتقال المناضلين؟ فالرفض النظري لصفقة القرن وعدم حضور ورشة البحرين يقابله بذات الوقت الامتناع عن تصليب وتقوية الوضع الداخلي وعدم محاكمة مسربي وسماسرة بائعي العقارات في القدس والفاسدين والحصول على أموال من الولايات المتحدة لدعم الأجهزة الأمنية فحسب. وكيف يمكن تفسير بقاء الانقسام وحرمان بعض الفصائل الرئيسة من حقوقها المالية في منظمة التحرير؟ والإصرار بالوقت ذاته على الاستفراد في القرارات التي تتعلق بمستقبل شعب فلسطين ومطالبة الفصائل بالمشاركة في حكومة وحدة وطنية؟هل بمقدور أحد فك هذه الإحجيات وكشف كنه هذه اللوحات السريالية؟ فالحثالات الإنكشارية المستأثرة بالسلطة السياسية والمنظومة الاقتصادية والمالية والأمنية والتي بات لديها الاستعداد الدائم والخبرة لبيع نفسها لكل حاكم جديد يقفز إلى قمة السلطة السياسية، سواء عبر انقلاب عسكري او انتخابات مزورة يجريها أو وفاة طبيعية أو بسبب دس السم له؟ وما ينطبق على النظام الفلسطيني يكاد ينطبق على بقية الأنظمة العربية. فكيف يمكن الكتابة في هذه الأجواء المضطربة والمتقلبة وغير المفهومة؟ ومن ضمن الغموض السريالي،توافق الغالبية العظمى من الأحزاب التونسية لمحاربة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي بما فيها حزب النهضة الذي يقوده الغنوشي (الاخوان المسلمين) المشترك في الحكومة الحالية، حيث لم نسمع منه صوتا ضد التطبيع كما لم يصدر منه أي بيان يعارض ويستنكر قيام 2000 سائح إسرائيلي بزيارة تونس رسميا.

لقد خرجت عشرات الألوف من التونسيين استنكارا للتطبيع؟ومن ضمنهم جماهير بعض الأحزاب الممثلة في الحكومة. فمن الذي نسق واحضر الوفود السياحية الإسرائيلية!! ربما الجن والايادي الخفية أو المكتب الثاني اللبناني؟ ومن ضمن الخطوط السريالية ما يجري في سوريا العربية. فتركيا المسلمة ضد سوريا وعلى خلاف كبير معها وتحتل جزءا من أراضيها في الشمال لكنها تقيم علاقات جيدة مع كل من روسيا وإيران أصدقاء سوريا؟ رغم انها ما زالت عضوا في حلف شمال الأطلسي وفي أراضيها أحد أكبر القواعد العسكرية له،لكنها قامت بشراء صواريخ اس 400 من روسيا مما أدى إلى توتير علاقتها مع واشنطن؟ فتركيا الحالية لم تتمكن بعد من بناء صداقة راسخة مع روسيا ولم تستطع إدارة ظهرها للولايات المتحدة الأميركية كما أنها لا تريد الانسحاب من حلف شمال الأطلسي وعلاقتها الاقتصادية جيدة مع إسرائيل وتتبادل السفراء معها وتريد بقاء قواتها المعتدية في سوريا.تركيا تقول انها ضد داعش والنصرة وبقية المنظمات الإرهابية ولكنها بذات الوقت تقف في وجه أي محاولة سورية للقضاء على تجمعاتهم الأخيرة في إدلب؟ ومثال اخر من العراق الذي يفتح أراضيه للقوات الأميركية الغازية لإقامة قواعد فيها بحجة محاربة الإرهاب،وبذات الوقت يقيم علاقة عادية وغير متوترة مع السعودية على الرغم من صداقة العراق لإيران وكونه مصنفا أو محسوبا على محور المقاومة وضد تنظيم داعش والنصرة؟ولا نعتقد أننا بحاجة إلى إضافة لوحات سريالية أخرى أكثر ايلاما وقهرا وخزيا تتعلق بعلاقة الاحتلال الإسرائيلي مع الدول العربية. والسؤال الهام الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا تحترم أو تنصاع الأنظمة العربية للإرادة الشعبية وتستجيب لها؟ الإجابة بكل بساطة هي: ان النظام العربي والحكام كلهم دون استثناء ليسوا مدينين لشعوبهم في وصولهم إلى قمة السلطة. فقد وصلوا إليها إما عبر اتفاقات تاريخية تمت مع المستعمر البريطاني او الفرنسي أو بانقلابات عسكرية جرت لاحقا أو من خلال انتخابات مزورة تماما. فكيف يمكن في ظل هذه اللوحات المتداخلة والمتشابكة والمتناقضة للكاتب ان يكتب بحرية؟ وهناك نقطة وأخيرة في هذا السياق وهي أن في الوطن العربي مراكز أبحاث ودراسات معتبرة تدار من قبل مهنيين ويصدر عنها تقارير وتحليلات وتوصيات وفي بعض الأحيان توجهات استراتيجية في غاية الأهمية لا يتم الاستفادة منها من قبل الحثالات الإنكشارية والتي لا تأخذ بها ولا تعيرها أي اهتمام بسبب غرورها وصلفها وجهلها. والحقيقة المؤكدة أنه لو كان الحكام هم الافضل تفكيرا وعلما وخبرة فلماذا يستمر التهاوي والتراجع والهزائم العسكرية المتلاحقة وفشل كل برامج التنمية؟ ولماذا يكون كل ما يصدر عن الرئيس والجوقة المحيطة به هو الصح والسليم دائما؟ولماذا لا تبرز قواتها المادية من طائرات ودبابات إلا ضد العرب فحسب كما يجري في اليمن حاليا.فالعديد من الدول العربية استقلت قبل الصين الشعبية وماليزيا وكوريا ودول عديدة في أميركا الجنوبية واللاتينية وقبل وجود الكيان الإسرائيلي نفسه، فلماذا كل هذه الدول تقدمت وانتصرت وسجلت نجاحات ملموسة في كل المجالات ونحن ما زلنا نتسول من الغرب ونعتمد عليه في معيشتنا وغذائنا رغم الموارد الضخمة الكامنة في جوف ارضنا؟ الا تتفقون معي بعد كل ما تقدم بان الكتابة السياسية باتت مقرفة وعديمة الجدوى ومضيعة للوقت،وتحول دون تمكين أي كاتب بالكتابة بحرية وبمهنية ودون تعرضه للمساءلة والملاحقة وربما كما حصل مع الكثير للاغتيال والقتل؟ لكل ما سبق وغيره كثير لم تتم الإشارة إليه في هذه العجالة، دفعت بكاتب هذه السطور لاتخاذ قرار بالتوقف عن الكتابة بالقضايا السياسية، بانتظار ان تنفرج الأمور ويتم حل ألغاز اللوحات السريالية أو حدوث طفرات نوعية تعيد للكتابة بريقها ومجدها مع الشكر والاحترام للجميع ولكل من سيقرأ هذا المقال. (وبالمناسبة كنت قد عنونت المقالب "فالج لا تعالج" لنشره كأخر مقال لي في القضايا السياسية وقد نقحته واضفت عليه وغيرت عنوانه ليظهر بهذا الشكل والمحتوى). 


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة