تلفزيون نابلس
الزواج المبكر... حكايات صادمة وعواقب نفسية ومجتمعية وخيمة!
7/2/2019 11:25:00 AM

 يعتبر البعض أن الزواج المكبر هو ما يندرج تحت سن العشرين، ولكن ماذا لو أعدنا تعريف السن المبكرة للزواج مع تطورات العصر الحاضر، واختلاف مقوماته ومجتمعاته، إلى جانب الاختلافات الجسدية والعقلية والنفسية عن الماضي، ما هو موقف القانون والطب وعلمَي الاجتماع والنفس من الزواج المبكر؟ وما هي التجارب الحديثة مع هذا النوع من الزواج؟

تقترب "القدس" دوت كوم في التحقيق التالي من كل ذلك، وتضع المجهر على ظاهرة الزواج المبكر في المجتمع الفلسطيني وآثاره الصحية والجسدية والنفسية، وتبحث في أسبابه وعواقبه المجتمعية.

الزواج المبكر للإناث: ضحايا وتجارب مؤلمة

"أ.ع" البالغة من العمر 38 عاماً تزوجت بعمر 16 عامًا ونصف العام، وكانت مجتهدة في المدرسة وتُحب التعليم، وكان هدفها إكمال تعليمها، ولكن، كما تقول، حين تقدم لخطبتها شاب، وافق والدها على الزواج من دون استشارتها، ولم ترَ وجه العريس إلا يوم الخطوبة عند تلبيس المحبسين.

وتقول "أ.ع": "كنت طفلة، مجرد طفلة عاقلة، تنصاع لأوامر والدها، والآن حين أجلس مع نفسي وأتذكر كيف حصل الأمر، أكاد لا أُصدق ما مررتُ به، وكيف عانيت طويلًا من اصطدامات كثيرة واجهتُها وأنا طفلة، فبالرغم من أنني وضعت شرطًا بأن أُكمل تعليمي بعد الزواج حتى شهادة التوجيهي فإن ذلك لم يحدث، فقد كنا نعيش أنا وزوجي في بيت أهله، وكانوا يسخرون مني حين أعود من المدرسة ومعي حقائبي وكتبي، فقمت برميها أرضًا، ولم أعد إلى المدرسة بعد ذلك اليوم، وهذه الذاكرة ما زالت عالقة في ذهني كأكثر شيء ندمت عليه في حياتي".

حملتُ مرتين وأجهضتُ بسبب صغر سني

وعن أثر الزواج المبكر على صحتها، تقول: "حملتُ مرتين مباشرة بعد الزواج، وأجهضتُ فيهما بسبب صغر سني، والآن أُعاني من التهاب في المفاصل، لأنني لم أكن أتناول الحديد والكالسيوم في فترات حملي، ولم أكن أُراجع الطبيبة المختصة، لجهلي بذلك".

وتضيف: "لو عاد بي الزمن وكان الخيار بيدي، لكان التعليم خياري الأول والأخير، لأتخصص بالطب النفسي وأعمل في مجال دراستي، ثم أُفكر بالزواج".

وتتابع "أ.ع": "لدي الآن بنت تدرس في الجامعة، وأرفض تزويجها حتى تُكمل تعليمها وتأخذ حقها بالمستقبل كاملًا".

أسأل نفسي كل يوم: "من أنا؟!"

وفي قصة أُخرى، تزوجت "د. أ" في عمر 18 عامًا، وبالرغم من أنها تزوجت عن حب، لكنها لم تتخيّل أنّ الأمر سيؤول إلى ما هي عليه الآن.

وعن تجربتها تقول: "كنت أعتقد أن كل شيء سيكون أفضل، وأنني سأُكمل تعليمي، حيث نجحت في التوجيهي، وكنتُ أنوي إكمال دراستي ولو عن طريق الانتساب، لكنني منذ زواجي حملت مباشرة، وبدأت معاناتي ومسؤولياتي تكبر تجاه طفلتي والبيت، وبالرغم من أنني وضعتُ موانع عدة بعد ولادتي الأُولى حتى آخذ وقتي في الاعتناء بطفلتي والعودة إلى الدراسة، فإن زوجي ظل مُصرّاً على الطفل الثاني، ولم يحترم قراري، حتى أنه رغب في ذلك لكي أنسى فكرة التعليم تماماً، وبعد ولادتين أُخريَين، صرت إنسانة لا أعرفها، لا بالشكل ولا بالمضمون، أصبحتُ سمينةً مترهلة، جاهلةً بكثيرٍ من الأُمور، وهذا ما زاد حالتي النفسية سوءاً، وأصبحت في نظر نفسي عديمة الفائدة، أستيقظ على بكاء الأطفال، ويضيع يومي بالشطف والمسح والطبيخ، لأسأل نفسي عند نهاية كل يوم: "من أنا؟!".

أرضت مَن حولها وخسرت نفسها

وفي حديثها تقول "ف. س" من الخليل عن تجربتها: "تمّت الخطوبة وأنا عمري 23 عامًا وهو سن يُعتبر متأخرًا للزواج في مدينة الخليل، إلا أنه كان مبكرًا بالنسبة لي، أما بنات العيلة لدينا فجميعهن ارتبطن وهن في عمر 15- 18 عاماً، ولذلك فإن بقائي حتى عمر 23 عامًا بلا زواج كان يشكل ضغطًا اجتماعيًا ونفسيًا عليّ طوال الوقت، واضطررتُ بسبب ذلك الضغط الاجتماعي للقبول بأول شخصٍ يناسب المعايير الاجتماعية العامة، لكنه لا يقترب بشكلٍ كافٍ من المواصفات التي أُريدها، وكل ذلك لأُرضي مَن حولي وأُسكت الناس".

وتضيف: "فشل العلاقة لم يظهر في فترة الخطوبة التي لم تزد عن شهر، وإنما بعد الزواج، وأعيشه يوميًا الآن، لم يكن في حساباتي أنني سأُعاني من الفروق الشخصية بيني وبينه بهذا الشكل، لو أن المجتمع منحني الفرصة والوقت الكافييين، وليس الضغط عليّ والتعامل معي على أنني عانس، لأخذتُ وقتي في اختيار شريكي المناسب.

وتتابع "ف. س": "أنا اليوم أستيقظ وأنام، ولا أشعر بأنني على قيد الحياة، ولا أستطيع الفرح بشيء، ولا أرى في الغد شيئًا أفضل، أقوم برعاية بناتي فقط، لأنني إن جربت الانفصال فسيأخذهم مني، ولو خطفًا، أما هو فالزواج بالنسبة له وسيلة لتلبية رغباته واحتياجاته.

الزواج المبكر للذكور: مسؤوليات ثقيلة و"طِيش" شباب

محمد الحديدي من غزة تزوج وعمره 24 عامًا، وفي اعتقاده فإن هذا السن سنٌ مبكرة للزواج بالنسبة للشباب، إذ يقول: "أعتقد أنها سنٌ مبكرة، خاصةً من الناحة المادية، فلم يكن لديّ بيت ولا أموال كافية لهذه الخطوة، حصل إعجاب واتفقنا على الزواج مثلنا مثل غيرنا من الشباب والشابات، فترة الخطوبة كانت فقط شهرين، ولم تكن فترةً كافية، نحن نتعرف فعليًا بعد الزواج، ونفكر إذا ما كان الشريك مناسبًا أم لا في فترة الحمل، والحمد لله أنني كنت محظوظًا، ولكن أصدقاء كثُراً لي انفصلوا بعد مدةٍ بسيطة من الزواج، أو أصبحوا مجبرين على إكمال العلاقة".

وعن تجربته، يقول الحديدي: "كنت أحتاج على الأقل أربع سنوات إضافية. فبعد التخرج كل إنسان يحتاج من خمس إلى ست سنوات لتجهيز نفسه والانخراط في سوق العمل، ما عدا الاستثناءات، كأن يكون أهلك من أصحاب الأملاك.

ويضيف: "لا بد من أن نتعلم بدايةً كيف نخرج من دائرة العرف والزواج التقليدي، ولا بد أن يختار الشاب شريكته وبالعكس، بعيداً عن خطبة الصالونات وتدخُّل الآخرين، ويجب أن تكون الخطبة طويلة المدة حتى يتم التعارف والاختيار بشكل جيد".

ويتابع الحديدي: "أعرف صديقاً تزوج فتاة بعمر 18 عاماً، وهي ظاهرةٌ منتشرةٌ بشكلٍ كبيرٍ في قطاع غزة، على أساس أنه يريد أن يُربيها كما يريد ويُشكّل شخصيتها بما يناسبه، وبالفعل كان سعيداً بداية الأمر لأنها مدللة ولا تُدرك ما يجري حولها جيداً، وهو ما أُسميه فرح العام الواحد، ولكن مع كل مشكلة بينهما على بساطتها تقول له: "بدي أروح عند ماما"، وصارت مشاكل عدة في القطاع تصل أحياناً إلى جرائم قتل بين أهالي الفتيات وأزواجهن بسبب الزواج المبكر".

كنتُ طفلاً ولم أستطع الدخول..!!

أما "هـ. ن"، فتزوج بعمر 17 عامًا، ويقول: كنت طفلاً، ولم أستطع الدخول إلا بعد سنتين من زواجي، لم أكن قد فهمت معنى الحياة بعد، وقد أثقلت كاهلي المسؤوليات، فقد رُزقت بمولود وأنا في سن 22 عامًا، ومن بعدها بعام رُزقتُ بطفلةٍ أُخرى، عانيتُ من الفقر الشديد أنا وأسرتي في بداية مشواري، ودخلتُ تجارب عدة مع نساء أُخريات، وكأنني عشتُ مراهقتي بعد الزواج، هو أمرٌ مخجل، لكنها الحقيقة، ولو أن زوجتي لم تكن زوجةً صابرة، لما نجح الأمر، اليوم عمري 46 عامًا، وأنا سعيد بأولادي، إنهم مثل أصدقائي الآن وهذا أفضل ما جنيته من زواجي المبكر".

بينما يرى "أ. ف" الذي تزوج في عمر 32 عامًا أن الزواج المبكر هو خيار أفضل للزواج، فهو يتيح للشخص القدرة على نقاش أمور عدة في الحياة المشتركة واختبارها بشكلٍ مبكر، والقدرة حتى على الانفصال عن الشريك في حال عدم الاتفاق معه، ولكن في حالة الزواج المتأخر فإن الخيارات ستكون محدودة وقليلة، وسيتم التركيز على إنجاب الأطفال قبل فوات الأوان.

ويوضح: "أعيش الآن أجمل اللحظات مع طفلتي، لكنني أُفكر أنه حين تكبر هذه الطفلة وتصبح شابة سأكون قد طرقتُ أبواب الخمسين، ولن أستطيع الاهتمام بها كما كنتُ أتمنى".

قانونيًا: 15 سنة هِجرية للأُنثى و16 سنة هِجرية للذكر!

تقول القاضية ورئيسة النيابة الشرعية صمود الضميري عن العمر القانوني للزواج: "العمر القانوني للزواج بحسب القانون الساري هو 15 سنة هجرية للفتاة، و16 سنة هجرية للذكر في الضفة وقطاع غزة بعد توحيد الإجراءات بالرغم من اختلاف القوانين، أما في القدس فالقانون الساري هو القانون الأردني المعدل، وسن الزواج القانوني فيه 18 عاماً.

وتضيف: "لا بد من العمل على قانون فلسطيني موحد لا يقل فيه سن الزواج القانوني عن 18 عامًا، لأن سن الزواج هو من المسائل الاجتهادية في قانون الأحوال الشخصية، وليس قطعيًا في الشريعة، والأمر الثاني ضرورة أن يتناسب سن الزواج القانوني مع قوانين الطفل التي تعمل بها بلدنا، التي تعتبر سن الطفولة مستمراً حتى 18 عامًا، وهنا يحدث تناقض بين ما تُوقّعه دولة فلسطين من اتفاقيات دولية وسيداو وغيرها، التي تنص على أن كل من هم دون 18 عامًا هم أطفال وقاصرون، ولذلك فإن المحاكم الشرعية ليس لديها مانع من رفع سن الزواج، بحيث تحدث عملية انسجام بين القوانين الفلسطينية السارية".

مشاكل قانونية تواجه القاصرات

وعن المشاكل التي تتبع الزواج المبكر تقول الضميري: "أما المشاكل القانونية التي تواجه القاصرة بسبب الزواج المكبر، فهي اللبس الحاصل بين الأنظمة القضائية، فهي تمتلك الصفة القانونية للمثول أمام القضاء الشرعي، لكن في الوقت ذاته لا تستطيع تحريك الشكوى الجزائية، إضافةً إلى قدرة وليّها على التنازل عن القضايا، وبالتالي التنازل عن الشكوى، من دون موافقتها، ما يعني أنها قد تتعرض لضياع الحقوق في هذه الحالة، كما يحدث تناقض بين قدرتها على المثول أمام القضاء الشرعي وعدمه وأمام القضاء النظامي والنيابة العامة النظامية، وهذا التناقض يسمح لها، من جهة، أن تكون مدعية في دعوى النفقة، ومن جهةٍ أُخرى لا تستطيع أن تصرف شيكًا متعلقًا بدعوى النفقة، وهذه الجزئيات المعقدة والمتناقضة، التي تجعل من هذه الفتاة في جانبٍ ما امرأةً بالغةً عاقلةً وزوجةً وأُماً حاضنة، وفي جانب آخر تُعتبر طفلةً لا تستطيع أن تكون مسؤولة عن نفسها، توقع ضررًا كبيرًا بالفتيات، وتحرمهن من حقوقهن، وتزداد تعقيدًا هذه الأُمور التي لا تكون فيها حماية قانونية خارج حدود دولة فلسطين بالقرب من حدود إسرائيل، في المناطق الجنوبية ومناطق البدو، خاصة التي لا تستطيع الوصول إلينا إلا بعد مشوارٍ طويلٍ من العنف والاستغلال، ويكون الدفاع عن حقوقها صعباً".

وتختتم الضميري حديثها بالقول: "لا بد من وضع استراتيجيةٍ طويلة المدى لعلاج وتطوير هذه المسائل القانونية".

آثار صحية وجسدية لعدم النضج الهرموني وعدم استعداد الجسد

يقول أخصائي الولادة والأمراض والجراحة النسائية د. محمد عودة حول الزواج المبكر والصحة الجسدية: "هي ظاهرة منتشرة في الوطن بشكل عام، وتتراوح أعمار الحالات التي تأتينا بين 14 و16 و17 عامًا، وهؤلاء الفتيات عادةً ما يعانين من عدم النضج الهرموني في هذا العمر، فيكون من الصعب أن تحمل".

ويضيف عودة: "لا يمكن اعتبار الفتاة ناضجةً من خلال الدورة فقط، بل إن النضج مرتبط كذلك بالغدة فوق النخامية في إفراز الهرمونات بشكلٍ مُنتظم، وهي من تعطي أوامرها للمبيض، وبالتالي لا تكون الدورة منتظمة بعد، إلا إذا انتظمت إفرازات هذه الغدة، وأحياناً يصبح العكس، فبسبب الإفراز غير المنتظم يحدث نزيف للفتيات الصغار، وكل ذلك يحتاج وقتاً لكي يستعد جسد الفتاة بشكلٍ كافٍ لفكرة الحمل والإنجاب من دون ضررٍ عليها أو على الطفل".

وعن أثر العلاقة الجسدية على الفتيات في سن مبكرة، يقول الطبيب عودة: "الممارسة الجنسية في زواج القاصرات، وفي حالات عدم الاستعداد لهذه العلاقة تتسبب في الغالب بنزيفٍ في منطقة العضو التناسلي الأُنثوي، والأكثر ضررًا من ذلك الصدمة النفسية التي نجدها لدى الكثير من الفتيات بعد العلاقة لترفض الممارسة الجنسية من زوجها فترةً طويلة، الأمر الذي تكون له ارتدادات اجتماعية ومشاكل منذ بداية العلاقة".

ويضيف عودة: أما عند الحمل والولادة، فهؤلاء النساء –ذوات السن الصغيرة- أكثر عرضةً للالتهابات المتكررة وفقر الدم والميلاد المبكر، وأكثر عرضةً لتسمم الحمل، وأثناء الولادة يكون ميلادهن صعبًا جدًا، وتتكرر حالات نزيف ما بعد الولادة، كما أنه أثناء الولادة تحدث آثار سلبية على الطفل وصحته، وتحدث حالات وفاة للطفل أو الوالدة بسبب هذه الخطورة، كتسمم الحمل الذي يحدث بشكلٍ أكبر للقاصرات، الذي قد يؤدي إلى الوفاة أيضًا".

ويتابع: "ولا بد من الإشارة إلى أن غالبية حالات الزواج المبكر تحدث عند شريحةٍ معينةٍ من المجتمع، تكون غالبيتها ذات خلفية بسيطة وقليلة الوعي، وبسبب قلة الوعي فإن معظم المتزوجات في عمرٍ مبكرٍ لا يراجعن الأطباء في فترات حملهن، ولا يعتنين بصحتهن أو صحة جنينهن بشكلٍ جيد، وبذلك تصبح المشكلة أكبر".

وعن السن المناسبة للولادة، يقول عودة: "السن الذهبية للولادة من 20– 35 عامًا".

آثار سلبية نفسيًا وسبب رئيس للطلاق

أما الأخصائية النفسية ومديرة مركز أمان للإرشاد والصحة المجتمعية مريم أبو تركي، فتقول: "كثير من الناس يتجهون للزواج المبكر رغبةً في الاستقرار والبيت والعائلة، لكنهم يجهلون العواقب الكبيرة التي تترتب عليه، مِن تحمل المسؤولية باكرًا والقفز عن مرحلة مهمة في حياتهم، وهي مرحلة المراهقة التي من خلالها لا يزالون يكتشفون ذواتهم وقراراتهم وخياراتهم في الحياة".

وتضيف: "قد ينهار الزواج بسهولةٍ مع صغر سن الفتيات والشبان وقلة التحصيل التعليمي، والفقر في عدم حصول هذه الفئة على فرص عملٍ جيدة بسبب مستوى التعليم المنخفض حين يتركونه باكراً بسبب الزواج المبكر، إضافة إلى صعوبة تربية الأطفال لنقص إلمامهم بذلك ونقص قدرتهم على تحمل المسؤولية".

وتتابع أبو تركي: "بشكلٍ عام، الظروف الاجتماعية والاقتصادية، والتكنولوجيا التي باتت بين أيدي الجميع، والعوالم الافتراضية غير الصحية.. إلخ، كلها عوامل تساهم في شحن طاقة الشباب نحو الارتباط وجعل التعليم والعمل في آخر اهتماماتهم".

24 عامًا عمر مناسب للطرفين

وعن العمر المناسب للزواج من وجهة نظرها كخبيرة نفسية، تقول أبو تركي: "إن كان بيدي وضع قانون الزواج، فلن يكون أقل من 24 سنة للرجل أو المرأة، يحتاج الشخص بعد عمر 15 إلى سنوات عدة ليبلور هويته وشخصيته، وتمتد تلك الفترة حتى عمر 21 أو 22 عامًا ليبدأ النضج الفعلي عند الإنسان، ولا بد من أن يأخذوا بعد ذلك من سنة إلى ثلاث سنوات حتى ينضجوا بشكل كافٍ ويدركوا ما يريدون في هذه الحياة وما يعانون حتى من مشاكل أو أمراض، فأغلب الأمراض لدينا تظهر في فترة المراهقة، والكثير من الحالات المرضية وردت لدينا بعد الزواج المبكر، حيث تتعرض الفتاة لضغط نفسي بسبب المسؤولية التي ليست من قدراتها، فتصير قابلةً للمرض النفسي أكثر من غيرها بسبب كل هذه الضغوط، والعدد لا يستهان به في مجتمعنا الفلسطيني، خاصة في الجنوب".

وتدعو أبو تركي إلى "البحث الجدي في ظاهرة الطلاق بسبب الزواج المبكر، حيث يعتبر الزواج المبكر وما يترتب عليه من تحديات اجتماعية ونفسية العامل الأساس لارتفاع نسب الطلاق بشكلٍ كبير".

الزواج المبكر.. الأسباب والدوافع المجتمعية

يُرجع المحاضر في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بير زيت د. مصلح كناعنة الزواج المبكر إلى أسبابٍ عدة، أهمها الاعتـقاد السائد في المجـتمع بأن الغاية الرئيسـة من الزواج هي الحمل والإنجاب، ولذلك فحالما تصبح الفـتاة قادرةً على الحمل والإنجاب ببلوغها الجنـسي، فإنها تصبح مؤهـلة للزواج، وحينئـذ ليس هناك داعٍ لتأجـيل زواجها.

ويضيف كناعنة إن من الأساب، أيضًا، أنّ "مصلحة الأب والعائلة لها الأولـوية على مصلحة الأبناء، خصوصًا الأصغر من بـينهم، سيّما الأنثى من بين هؤلاء. فالعائلة العربـية أبـوية وهـرمـية في مبناها، إذ تتـوزع مراكـز السـلطة فيها حسـب السـن والجنـس، فيحتـل الأب رأس الهـرم، وتحتـل البنات (والأصغر من بينهن على وجه الخصوص) قاع الهـرم. وفي سـياق المجـتمع الفـلسـطيني الُمثـقَل بجـراح الاحـتلال وأعـباء النـضال من أجـل زواله، فإنه عـلى الرغـم من أن هـرم العائلة يزداد "تسـطيحًا" في الطبقـات المـيـسورة وفـئات المثقـفـين (نتـيجةً للازدياد النسـبي للمسـاواة بين الجنسين)، فإن هـرم العائلة في الطبقـات الدنيا وفي القـرى النائـية والأماكـن الأكـثر تـضررًا من ممارسـات الاحـتلال يزداد ارتـفاعًا وضيقًا، فتـزداد الفـروق في توزيـع السـلطة حسـب السـنّ والجنـس، ويزداد تبعًا لذلك انـفـراد الأب بالسـلطة، وتفـضيل مصلحة الأولاد على البنات، وحشـر الفـتيات الأصغـر سـنًا في قـاع الهـرم الضـيق.

ويتابع: ولذا، فإذا كان في تزويـج البنـت مكسـبٌ كـبيرٌ للعائلة ككـل أو لأحـد الأبناء فيها، أو للأب بالـذات، فلا مانع من تـزويجها من أجل تحقـيق ذلك المكسـب، حتى وإن كانت البنـت في سـن الطفـولة، أو كان الرجـل المتـقـدم لها يكـبرها بعشـرات الأعـوام. وكلما زادت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ضيقاً وحرجاً، زادت الدواعي للتضحية بالبـنات من أجل تحقـيق مكسـب أساسيّ للعائلة أو أحد أبنائها، ففـتاة في سـن 12-16 عاماً يتم تزويجها من أجل حصول أحد الإخـوة على وظيفة في مكـتب أو شـركة، أو حصول الأب على مَنفَذٍ إلى فـئة ذوي الحـل والربط في المجـتمع، أو الحصول على إذنٍ للسفـر، أو على جنسـيةٍ أجنبـيةٍ أو بطاقةٍ خضراء في أمريكا، أو بطاقة هـوية القـدس التي أصبحت عملةً صعـبة، أو منحةٍ للدراسـة في الخارج، أو امتـيازٍ من وكالة غـوث اللاجئـين... وحدِّث ولا حرج.

ومن أسباب الزواج المبكر، كذلك، حسب كناعنة، "اسـتـفحال الضائـقة الاقـتـصادية، وانتـشار الفقـر المدقع، ووصول معدلات البطالة إلى أرقام خيالية في الوقـت الراهـن، خصوصًا في قـرى منطقة القـدس التي بتـرها جـدار العـزل العـنصري عن أماكن العمل ومصادر الرزق في محـيطها (في بير نبالا، مثلاً، تقدر نسبة البطالة بنحو 70%)، وفي قـرى ومخـيمات شـمال الضفة التي عُـزلت كليّاً عن باقي الأراضي الفلسطينية (يقال إنّ نسبة البطالة في قلقيلية وصلت إلى 80%). هذه الأوضاع المأسـاوية تخـلق لدى العـديد من العائلات الفلسـطينية حاجةً ماسةً إلى تخفـيف الضغـط عن العائلة، وإعـفاء المُعـيل من بعـض العبء الذي يُثـقـل كاهـله. وبالطـبع، فإنّ أول من يكـون مرشـحاً للـزوال من العائلة هن الفـتيات، لا بل إنهن المرشحات الوحـيدات للزوال، فـزواج البنـت لا يكـلف شـيئاً، وإنما يعـطي العائلة مكسباً فـوق مكسـب (والمهـر المرتفـع "بركة من الله ورحـمة"). ثم إن تـزويج البنـت في أبكر سـنٍّ ممكنة يصبح في مثـل هذه الأوضاع ضرباً من الحكـمة والتـفكـير المادي السـليم، لأن ذلك يريح العائلة من مصاريف إعالـتها وتعـليمها التي سـتـذهب هـدرًا (بزواجها) على أيّ حال! أما الابن، فتـزويجه لا يُخفـف العـبء، بل يزيده، ولا يُخرجه من نطاق مسـؤولية الأب، بل يزيد من همومه ومسؤولياته".

ويضيف: يُضاف إلى ذلك أنه في مجـتمعٍ ذكـوريٍّ كمجتمعنا، تُعدّ البنـت غـير المتـزوجة مصدرًا للخطـر، لأنها "تجلـب العـار"، ولذلك يجـب "التخـلص منها" في أسـرع وقـتٍ ممكن، وقـبل أن يسـبـق السـيف العـذل. فبينما الشـاب حـرٌّ في سـلوكه وعلاقاته بالجـنس الآخر، وحـرٌّ في حصد التجارب وخـوض المغامرات، ويُسمَـح له بالسفـر وحـده إلى آخـر بقاع الأرض ليزيد رصيده من "التجارب" التي تجعـله "رجـلاً ناضجًا" يفخر أهـله به وبمغامراته، فإن الفـتاة تتحرك دائمًا على حـد السكـين، وأي خروج على القاعـدة الضيقة، أي كلمة أو بسـمة أو إيماءة تتبادلها مع ذكر من خارج دائرة المحرمات، أيّ محاولة لإقـامة علاقـة مع شـاب مهما كانت بريئة، تُعد شـذوذًا يُـلحِـق العار بوالدها وعائلتها وكل من يمـت إليها بصلة رحم أو دم فكما يقول المثل: البنـت "لا تؤمّنـها من بيتها لبـيت خالها"، و"البنت بتجيب العار والمعيار، والعدو لباب الدار"، و"النسـوان حـبال إبليـس"! وبدل أن نلجم "إبليـس" ونحد من شروره، نقـطع حباله ونزوجهـن قـبل أن "يلعـب إبليـس بهن".

ويتابع: ومما يعـزز هذا الموقـف الازدواجي ويمنحه زخمًا أكبر هو الاعتـقاد السـائد بأن الفـتاة في مرحلة المراهـقة تفقـد اتزانها وتنساق وراء غرائزها، فيصبح من السهـل على الرجال إغـواؤها وإيقـاعها في الخطـيئة، ولذلك فمن الحكمة تـقـديم الدواء على الداء وقـطع الطريق على إبليـس ومن يتجسـد فيهم قـبل فـوات الأوان. ويزداد هذا الشعـور المُبطّن بالرعـب من الفـتيات المراهـقات في زمـنٍ "انعدمت فيه الأخـلاق والقـيم وانتـشر فيه الفسـق والفجـور"، كما قال أحـد الأسـاتذة المحليـين ممن يُحبّـذون الزواج المبكر ويناشـدون الآباء بقـطع "حـبال إبليـس"!

البلوغ الجنسي لا يتزامن مع البـلوغ العقـلي والنفـسي والعاطفي

ويشير كناعنة إلى "ما يُجـمع عليه علـماء النفـس والتربية من أن البـلوغ الجنسي لا يتزامن مع البـلوغ العقـلي والنفـسي والعاطفي، فالبلوغ بالمعـنى الأخـير لا يتم إلا بعد سـن السادسة عشـرة، على الرغـم من أن البلـوغ الجنسي يتم ما بـين 12-14 عامًا.

ويستخلص كناعنة من ذلك: وعليه، فإنّ هناك إجماعًا عالميًا، تتـبناه المؤسسات الحكـومية وغير الحكـومية في العالم المستـنير، كما تعـتمده منظمة اليونيـسيـف ومنظمات حقـوق الإنسان وحقـوق المرأة والطفـل الدولية، على تعريف الطفولة بأنها فترةٌ تمتـد إلى نهاية سـن السادسـة عشـرة، واعـتبار كل من لم يبـلغ هذا السـن طفـلاً لم يكـتمل نضجه العقـلي والنفـسي والعاطفي بعـد، وأن الاعـتداء على مَن هـو في سـن السادسة عشـرة أو أقـل هو اعتـداء ليس فقـط على إنسان، بل على طفـلٍ قاصرٍ وغـير قادرٍ على الدفـاع عن نفـسه أو التـصرف بما يتـلاءم ومصلحته.

ويعتبر كناعنة أنه "على هذا الأساس نسـتطـيع أن نجـزم بأن تزويج البنـت تحـت سـن السادسة عشـرة هو اعتـداء عليها، لأنها لا تـزال في هذه السـن طفـلة عقـلياً ونفسياً وعاطفياً، وأنّ قـطع طفـولتها وتحويلها المفاجئ إلى زوجـة تتحمل أعـباء الزواج ومسـؤوليات الأمومة هو اعـتـداء سافـر على طفـولتها. والطفـولة حق للطفـل علينا نحن البالغين أن نوفره ونحميه، كما أنها ضرورةٌ لا يمكن الاستغـناء عنها، والاعتـداء عليها من شأنه أن يُلحق أضراراً جسيمةً بشخصية الإنسان ونفسيته يصعب التغـلب عليها وإصلاحها فيما بعـد.

ويختتم حديثه بالقول: نحن نعتدي على طفـولة أطفالنا من خلال تزويج بناتـنا في طفـولتهن؟ كل ما يسـوقه الناس من تبريراتٍ للزواج المبكر، وإلقاء التبعة على الاحـتلال وغطرسـته أو على الثـقافة وجبروتها، هي مبررات لا تكـفي لتسـويغ اعتـدائنا على أطفـالنا وحرمان بناتـنا من طفـولتهنّ بهذا الشـكل المدمر. وإذا كان العديد من الآباء في مجـتمعنا عبـيدًا للعادات والتـقاليد الذكـورية التي تصب في صالحهم، فعلى سـلطة القانون أن تأخـذ بزمام الأمور وتمنعهم من الاعتـداء على طفـولة بناتهم ومصيرهنّ.

إحصاءات...

أكثر من خُمس الأفراد (21,4%) تزوجوا في عمرٍ مُبكر (أقل من 18 سنة)

20,3 % نسبة الزواج المبكر للإناث مقابل 1,1% للذكور، وذلك من المجموع الكلي للأفراد المتزوجين في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث بلغت هذه النسبة في الضفة الغربية 19,7% من إجمالي الأفراد المتزوجين في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة 23,7% من إجمالي الأفراد المتزوجين في قطاع غزة خلال عام 2015.

وعلى مستوى محافظات الضفة الغربية، بلغت أعلى نسبة للزواج المبكر للإناث في محافظة الخليل بنسبة 36,2%، وأقلها في محافظة أريحا والأغوار بنسبة 1,3%، وذلك من مجموع الإناث المتزوجات (في عمرٍ أقل من 18 سنة) في الضفة الغربية، وعلى مستوى محافظات قطاع غزة، فبلغت أعلى نسبة للزواج المبكر للإناث في محافظة غزة بنسبة 40,8%، وأقلها في دير البلح بنسبة 6,9% من مجموع الإناث المتزوجات (في عمرٍ أقل من 18 سنة) في قطاع غزة.

62 % من الإناث في العمر 18 سنة فأكثر متزوجات

بلغت نسبة الإناث المتزوجات من مجموع النساء في العمر 18 سنة فأكثر 62,3% في العام 2016، و26,4% لم يتزوجن أبداً، وبلغت نسبة الأرامل 6,6%، ونسبة المطلقات 2,0%، فيما كانت نسبة اللواتي عقدن قرانهن لأول مرة 2,7%.

المصدر القدس دوت كوم


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة