تلفزيون نابلس
بريطانيا وإسرائيل ما بعد بريكست: الاقتصاد فوق الحريّات
3/3/2019 6:44:00 AM

 في سبيل ضمان علاقات تجارية جديدة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، ضاعفت إدارة التجارة العالمية البريطانية عملها من أجل تحصيل ما يمكن تحصيله من الصفقات التجارية "السهلة"، ووقعت بريطانيا في 18 شباط/ فبراير الماضي، اتفاقيّة تجارية مع إسرائيل، استبدلت الاتفاقيّة القديمة التي كانت تضم دول الاتحاد الأوروبي ككل.

وبرزت مخاوف جدّيّة تجاه العلاقات التجارية الإسرائيلية البريطانية على مدار سنوات طويلة، لكن الاتفاقيّة الأخيرة أوصلت هذه المخاوف إلى الذروة، ففي أيّار/ مايو الماضي، أبدى أكثر من 70 عضوًا برلمانيًا من جميع الأحزاب البريطانيّة عن تخوفهم من تجارة السلاح بين البلدين، في أعقاب وصول مشاهد لإطلاق القناصة الإسرائيليّين الرصاص على الفلسطينيين العُزل في غزّة، إلى شاشاتنا.

وفي الوقت ذاته، اتخذ مجلس الشيوخ الإيرلندي خطوة غير مسبوقة بالموافقة على قانون يمنع التجارة مع المستوطنات غير القانونية، وهي خطوة كانت في برامج انتخابية لكثير من المرشحين على مدار عقود من الزمن.

تجاهل حقوق الفلسطينيين

إذًا، ما الذي دفع الحكومة البريطانية إلى وضع الاتفاقيّة التجارية مع إسرائيل على سلّم أولوياتها في الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات المشكّكة بالعلاقات التجارية مع إسرائيل العام الماضي؟

ينقسم الجواب إلى شقين مصحوبين بتمني حدوث تغيير كبير على هذين الصعيدين.

أولا؛ حصل ذلك لأن الحكومة البريطانية تُقلل بشكل ممنهج من قيمة حقوق الفلسطينيين وسلامتهم الشخصية، عبر المحافظة على علاقة تجارية مستمرة مع إسرائيل، حتى مع استمرار الأخيرة في الانتهاك الممنهج لحقوق الفلسطينيين.

ثانيا؛ هناك خلل هائل في العملية الديمقراطية البريطانية حول ملف التجارة.

من الضروري الكشف عن الجوانب التي كانت تعاني من اختلال خطير في اتفاقية "التعاون" بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، من أجل استيعاب أسباب الاتفاقيّة التجارية البريطانية الإسرائيلية الأخيرة، والتي شكلت الاتفاقية الأولى أساسا لها.

عُقدت معاهدة الاتحاد الأوروبي عام 1995، ودخلت حيز التنفيذ عام 2000، ومنذ ذلك الحين، قادت هذه الاتفاقية العلاقات التجارية بين الاتحاد وإسرائيل، موفّرةً مكانةً اقتصادية وتجارية وتكنولوجية وبحثية، تفضيلية بينهما، كما شكلت أيضا أساسا لأشكال أخرى من التعاون، بما في ذلك العلاقات الدبلوماسية.

أما بالنسبة لإسرائيل، فإن هذا التفضيل مهّد لها الطريق لدخول الأسواق المختلفة، لكنه فتح، أيضًا، بوابة للعالم السياسي والثقافي (الأوروبي)، الذي كان في غاية الأهمية لها، في محاولاتها تبييض جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، وشمل ذلك مشاريع ثقافية حكومية، كمهرجان الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" المزمع عقده في تل أبيب العام الحالي.

تقنيات الحرب والمراقبة

وبالتوازي مع المشاريع الثقافية، لعبت العلاقات بين إسرائيل والاتحاد، دورًا هائلًا في تجارة الأسلحة العالمية، وخصوصا في قطاع تطوير التقنيات الجديدة للحرب والمراقبة. جنت الشركات التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية أكثر من 500 مليون دولار من تمويلات الاتحاد الأوروبي، عبر مشروع "أفق 2020"، وهو برنامج الاتحاد الأوروبي للأبحاث.

استخدم الاتحاد الأوروبي علاقاته مع إسرائيل، أيضا، لتقوية القوى الأوروبية الباحثة عن تعظيم العسكرة والعقلية الأمنية بهدف بناء "الحصن الأوروبي" وتطوير مراقبة الدولة التي تُستخدم لقمع الاحتجاج والمعارضة.

وانطلاقًا من الأسباب المدرجة أعلاه وغيرها، يُطالب حقوقيون بمراجعة اتفاقية "التعاون" بين الاتحاد وإسرائيل، منذ سنوات طويلة.

وتسببت العلاقات بين الاتحاد الأوروبيّ وإسرائيل، بعدّة لحظات مُحرجة له، فعلى سبيل المثال، هدم الجيش الإسرائيلي مباني مولها الاتحاد في الضفة الغربية المحتلة، وفي مثال آخر، رفضت إسرائيل بشدّة المحاولات الأوروبية، المتواضعة نسبيا، لضبط بضائع المستوطنات غير القانونية، عبر تعريفها.

وفي حين أن كثيرين احتجوا على الصفقة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، لأسباب سياسية، إلا أن هنا نقطة تقنية أثارت التساؤلات، أيضًا. فيُفترض أن المادة الثانية من معاهدة الاتحاد الأوروبي، وجميع الأفضليات التجارية التي تمنحها، مشروطة بـ"احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية".

وأثبت الفلسطينيون على مدار عقود سِجِلَّ انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، حيث كانوا الطرف الخاضع للظلم عبر نظام تمييزي ومؤذٍ وفصل عنصري (أبرتهايد).

الانتهاكات المستمرة للحقوق

لم يكن الفلسطينيون وحدهم من انتقد سجل انتهاكات حقوق الإنسان الخاص بإسرائيل.

فقد أدرجت وزارات الخارجية البريطانية المتعاقبة إسرائيل في خانة "الدول ذات الأولوية في مجال حقوق الإنسان"، بجانب دول مثل السعودية وسريلانكا وروسيا، وأنظمة استبدادية أخرى، كما أنها تُصدر، دوريًا، بيانات تعبر فيها عن القلق حول انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، خصوصًا في ما يتعلق باحتلالها للأراضي الفلسطينية.

وفي العام الماضي، أصدرت محكمة الجنايات الدولية تحذيرات غير مسبوقة لإسرائيل، مرّتين، لأفعالها التي يُمكن اعتبارها جرائم حرب.

وبالتزامن مع توقيع الصفقة التجارية الأخيرة، من المقرر أن تعلن لجنة مستقلة نتائجها في آذار/ مارس المقبل، أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أعقاب التحقيق بالهجمات العسكرية الإسرائيلية على مسيرات العودة الكبرى التي انطلقت في آذار الماضي.

وسيقدم التقرير توصيات حول خطوات المحاسبة التي قد تتضمن عقوبات. فهل هذا هو الوقت المناسب لبريطانيا لزيادة تجارتها مع إسرائيل؟

وعلى الرغم من ذلك، فقد أشارت الحكومة البريطانية في العام الماضي، إلى أنها لم تقيم التزام إسرائيل بشروط مراعاة حقوق الإنسان والديمقراطية، الواردة في اتفاقية "التعاون" بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، ومن الصعب أن نتخيل أنها أجرت تقييما مماثلا لمدى التزام إسرائيل بهذه الشروط، خلال الأشهر القليلة التي فصلت بين البيان الأول والصفقة التجارية الجديدة.

إن توقيع الاتفاقيّة التجارية البريطانية الإسرائيلية، بمثابة مؤشر سيئ إلى مدى التزام بريطانيا تجاه حقوق الشعب الفلسطيني. لكنه، أيضًا، مؤشر يدعو للتشاؤم حيال الطبيعة التي سوف تتخذها المباحثات التجارية البريطانية في المستقبل (في أعقاب بريكست).

انعدام المحاسبة

أقل من شهر فَصَلَ بين التقارير الأولية عن نية بريطانيا عقد اتفاقيّة مع إسرائيل، وبين التوقيع الفعلي للاتفاقيّو، ولم يكن هناك أي استشارة عامة أو مناقشة برلمانية. ويمكن لأمور مماثلة أن تحدث في الوقت الحالي، لأنه لا يوجد ما (ومن) يشترط على الاتفاقات التجارية، أن تشمل المحاسبة الديمقراطية.

ويمكن للمسؤولين البدء بمفاوضات تجارية، وعقد صفقات وراء الأبواب المغلقة، والتوقيع عليها، دون أن يضمن البرلمان حتى إمكانية التصويت على الصيغة النهائية للصفقة. ويمكن لوزراء التجارة أن ينطقوا بكلمات لطيفة عن "التمسك بقيمنا" حول حقوق الإنسان دون اتخاذ خطوات لضمان ذلك فعلًا.

ونحتاج في دولة ديمقراطية حديثة إلى إجراءات أساسية معينة، لضمان دعم التجارة لحقوق الإنسان بدل استثنائها. ويجب أن تُفحص النتائج الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والتطويرية والحقوقية لأي صفقة تجارية قبل عقدها. ويجب، أيضًا، ضمان موافقة البرلمان، ووضع حدودها وأهدافها.

أما في الوقت الحالي، فتقع المسؤولية والعبء على المجتمع المدني للدفع نحو المساءلة عندما تفشل الحكومات بفعل ذلك. واليوم، هذا يعني الدفع باتجاه الديمقراطية التجارية، ومطالبة بريطانيا بإنهاء التجارة المميتة للأسلحة مع الأنظمة القمعية، بما في ذلك إسرائيل والسعودية وعشرات الدول غيرها، وحظر استيراد البضائع الاستيطانية من الأراضي المحتلة، سواء في فلسطين أو الصحراء الغربية.


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة