تلفزيون نابلس
رحلة الى المحكمة العسكريه
7/30/2017 7:28:00 PM

بقلم الباحث : منقذ أبو عطوان - ما ان تستمع الى خبر عن تحديد يوم لعقد جلسات المحكمة حتى تسارع لحجز دور من بين افراد الاسرة غير المسموح لهم بالزياره لكي تذهب وتحضر جلسة المحكمة وتكحل عينيك بنظرة تختلسها من بين جنود الاحتلال المدججين بالسلاح لحبيب ابعدوك عنه عنوة وقهرا، وتنتظر تلك الايام حتى يأتي موعدها، تنام او لا تنام وانت تنتظر ساعات الصباح الباكر لتنطلق في رحلتك الى محكمة عوفر المقامة على اراضي بيتونيا غرب رام الله، تبدأ الرحلة وانت لم تنل قسطك الكافي من النوم والراحة بسبب الشوق والافكار التي تقتحم مخيلتك بماذا سنتحدث وماذا سأقول له ومن حمَلني امانة السلام عليه، وحين تصل الى ذلك الموقع تكون قد اجهدت تعبا من تنغيصات الطرق والحواجز ولكنك تتعالى على جرحك مبررا ان كل شيء يهون في سبيلك ايها الغالي.

تبدأ المحكمة قبل انعقادها، محكمة لك انت وليس للاسير الذي أوصدت عليه كل فضاءات السماء، يبدأ مسلسل الذل والالم من لحظة وصولك اول حاجز لذلك المكان، انزع عن نفسك كل شيء له علاقة بالمعادن، الحزام، قطع النقد المعدنيه، جهاز الاتصال الخليوي، ولاعة السجائر.....الخ، كل شيء ما عدا بطاقة الهويه، تستمع لالفاظ  قاسيه ومهينه وانت تمر من بين البوابات الالكترونية والمعاطات ( المعاطات : هي بوابات يتم التحكم في فتحها واغلاقها عن بعد، وهي عباره عن قضبان حديد تدور بشكل دائري ويدخل من بينها الانسان بشكل بطيء ومؤذي)، مراقب انت منذ اللحظة الاولى لوصولك، مستهدف انت منذ لحظة ولادتك وقبل وصولك لذلك المكان، ومن ساء حظه وأصدر صوتا من تلك الابواب الالكترونية فعليه العودة من اجل تفتيش نفسه من جديد عله يجد دبوسا في ملابسه بعد ان يستمع للموشح الصادر من ذلك الجندي او تلك المجندة التي تجلس في مكان محصن وعبر مكبر الصوت مخاطبة إياه( ارجع انت يا خماره او ارجع انت يا خمار، انت ما بفهم) سمفونية ملؤها عنصرية وفكر ارهابي حاقد، وما ان تنتهي تنطلق في ممر ضيق محاط بأسلاك شائكة تحت اشعة الشمس في الصيف وتحت وابل المطر في الشتاء وتنتظر في مكان محدد حتى وصول سيارة الفورد( سيارة الفورد: هي سياره من نوع فورد مجهزه لحمل عشرة ركاب، وهي وحيده لا يوجد غيرها، مهمتها نقل الزوار من الحاجز الاول وحتى مكان الانتظار قبل حواجز المحكمة مقابل مبلغ ثلاثة شواقل يدفعه الزائر ) السياره اليتيمه المخصصة لنقلك مسافة اقل من كم واحد.

وحين وصولك الى المكان المخصص للتجمع قبل الدخول الى حواجز المحكمة تبدأ معاناة جديده، متمثلة بالازدحام وقذارة المكان وروائح كريهة تنبعث من كل مكان ( مياه المجاري) تحاول ان تنسى كل ذلك تحت لهفة رؤية الحبيب، او بانشغالك وانت تنظر الى عيون الناس وهي ترتقب لموعد ذكر الاسماء الذين ستكون لهم المحكمة هذا اليوم، ترتقب وتتألم بصمت كغيرك، بعد ان تقوم بوضع قطعة نقديه بقيمة خمسة شواكل لتحجز صندوقا في خزانة وتضع  مقتنياتك فيها ( خزانة صغيرة مخصصة لذلك)، حيث لايسمح لك باصطحاب اي شيء سوى بطاقة الهوية وعلبة السجائر والولاعة والمال، وما عدا ذلك فممنوع ممنوع وتعاقب عليه بالسجن، كل شيء ممنوع حتى الورق.

بعد ذكر الاسماء تصطف في دور وانت تستمع الى كلمات مهينه محشوة بكلمة لورى لورى ( للخلف للخلف) وما ان يذكر اسم الاسير تدخل في معاطات جديده وبوابات الكترونية جديده وتقف امام زجاج محصن فيه فتحة صغيرة تسلم فيها بطاقة الهوية بعد ان يسألك الجندي عن اسم الاسير وصفة القرابة بأشمئزاز وتقزز، ثم يأخذ بطاقات الهوية ويعطيك رقما ومن ثم تنتظر امام معاطة جديدة وباب الكتروني جديد يفتح لك عبر تحكم من بعد، تدخل في مكان اشبه بزنزانة ولكن جدرانها من حديد واسلاك شائكة تزدحم بالزائرين، وما هي الا لحظات حتى يفتح باب من حديد محصن يخرج منه جندي مدجج بالسلاح فيشير الى ثلاثة اشخاص فيأخذهم معه الى داخل غرفة صغيرة تعج بالاجهزة والرقابة، فيطلب منك خلع  حزامك وحذائك وسترتك ويتم وضعهما وبداخلهما علبة السجائر والولاعة داخل جهاز فحص، وانت تمر حافيا من غير نعليك داخل بوابة الكترونية تتمتع بحساسية اكثر من سابقاتها، وتنتظر خروج نعليك من ماكنة الفحص، وبعد ذلك تقف في مكان يخصصه جندي اخر لك ويأتي بجهاز محمول يمرره بجانب كل اجزاء جسدك، من فوق ومن اسفل ومن الامام والخلف والجنب مستخدما يديه ايضا في ذلك، وما ان يتم مهمته فيقول لك يالله روخ ( اذهب)، تذهب وانت تعتمر في حزامك وتتمتم سبا وقدحا للاحتلال والظروف ولذلك اليوم الذي جئت به الى هنا _ هذا ما يريدون ان تسب اليوم الذي جئت به الى هنا_ تسير عبر ممر ضيق يوصلك الى ساحة الانتظار. هذه الساحة تحوي غرفة للانتظار بجانبها مقصف يديره جنود واسعاره خيالية، ولهذا السبب يسمح باصطحاب المال الى هذه الساحة، كذلك فإن هذه الساحة تغطي غالبية  ارضيتها المياه السائلة من صنابير المياه المخصصة للسيلان لكي تجعل الخيارات صعبة جدا للزائرين، فإما الجلوس على الارض والتبلل بالمياه وإما الاستمرار في حالة الوقوف والحركة داخل الساحة.

كل ذلك يحدث امام ومرأى  ما يسمى بالجهاز القضائي في حكومة الاحتلال، كل ذلك يحدث للنساء والشيوخ والشباب بقرار أعد وأخذ مسبقا من جهاز حكومي لمعاقبة اهل الاسير، وكأن المحكمة هي للاهل قبل الابناء. وهنا لا اتحدث عن عقاب جماعي فقط، وإنما اتحدث عن محاكمة جماعية هنا تحمل في طياتها كل معاني الالم والقهر والعذاب، رسالة تهدف الى خلق حالة من التذمر والتشكيك في صحة ما قام به الابناء، آليات قهر وعذاب تعمل في كثير من الاحيان الى رد فعل معاكس، فبدل ان يكون الغضب على المحتل صاحب كل مشاريع الذل والاهانة يتم تحويلها وعكسها على الضحية المأسور داخل علب اسمنتية،والذي كان سببا للقدوم لهذا المذبح والمكرهة ( المحكمة)، عقول وافكار شيطانية تخطط لكل ذلك.

ورغم كل المعاناة التي يتم تناسيها  رغم مرارتها، الا ان انتظار وترقب ذكر اسم الاسير لبدء الجلسة يغلب على كل ذلك، فالرغبة للقاء والشوق له ومعرفة مصير الابن اهم من كل المعاناة والالم، انسانية يبديها الاهل تجاه احبائهم منقطعة النظير، وحقد مسموم واجرام يبديه المحتل ضد اهالي الاسرى ولا يتوقف.

ترتقب في الساحة وعيناك لا تغادر كل جندي يخرج وهو يحمل بين يديه ورقة لعل اسم ابنك مدرج فيها، ترتقب كل خرخشة في مكبر الصوت لعله ينادي على الاسم ليحين موعد اللقاء ( عقد جلسة المحكمه).تنتظر وانت مصوب وجهك إتجاه ستة كرافانات والتي تشكل قاعات محاكم( الكرفان: مصطلح عبري بمعنى الغرفه الخشبيه او الغرف المصنوعه من الاسبست) لا تتوقف ابوابها من الفتح والاغلاق.

ساعات هي بعد الظهيره حين سمعت مكبر الصوت ينادي عائلة غضنفر ابو عطوان الى قاعة رقم اربع، فهممنا وذهبنا مسرعين ودخلنا قاعة المحكمة، هذه الفاعة تحوي كل شيء الا المحكمه، فيها مقعدين اثنين بعدد من يسمح لهم بحضور المحكمة، يعتلي منصتها شخص يرتدي بزته العسكريه، تحيط به كتبة ومترجم، فيها قفص يحتوي على اربعة اسرى، يفصل بيننا شبك حديدي، وجنود مدججون بالسلاح يحولون بيننا وبين الاسرى، غير مسموح لك ان تقترب من اي منهم او ترفع صوتك مخاطبا ايا منهم، نظرات تسترقها وتشير بيديك لهم وتؤشر بيديك لتسألهم عن صحتهم، تسترق كل شيء، الاشارة والهمسة وحركة الشفاه، حتى البسمة المصطنعة تسترقها من بين بنادق الحراس، يضرب من يعتلي المنصة بالمطرقة وهو يقول شيكت شيكت ( سكوت سكوت) ويقول: غضنفر انت متهم بكذا وكذا، وتؤجل محكمتك  الى  مدة كذا ( شهرين ونصف حسب التواريخ). ثم يأتي جندي ويخرجك من القاعة ، وجندي اخر بصحبته اهالي اسرى اخرين، لحظات معدودة تلك التي يسمح لك فيها بمشاهدة قريبك ، وبعد ذلك يتم اخراجك من المشهد كله وتعود الى سلسة المعاطات والابواب الالكترونيه من جديد.

لحظات فقط لا تتعدى الدقيقتان يستهلكن يوم كامل بل اكثر من ذلك، سفر وإهانة ومعاناة وتفتيش مذل وساعات انتظار طويلة وأرهاق وتعب شديد في سبيل بضع دقائق غير مسموح لك فيها ان تتحدث مع من جئت لأجله، أهذه محكمة؟

انها ليست محكمة لاسير يتهمه المحتل بإعاقة مشروعه الاحتلالي، انها محكمة لأهل ذلك الاسير، محكمة من اجل عقابهم وإيذائهم نفسيا وجسديا، فهم يحاسبون لانهم مارسوا حياتهم الطبيعية وانجبوا ذلك الشاب او الفتاة، يحاسبون لانهم ولدوا فلسطينيين وانجبوا فلسطينيين، يعاقبون لانهم حلموا بعيش هاديء لا تعكره رصاصات المحتل ولا غازاته المدمعة والسامه، يعاقبون لانهم صرخوا كفى للقرميد الاحمر ( كناية للمستوطنات) الذي يجتاح  كرومنا وجبالنا وشوارعنا، يحاسبون لانهم انسانيون ويغمرهم الحب والدفء والحنان لفلذات اكبادهم التي حالت الاصفاد والزنازين والبنادق بينهم.

محكمة تحوي كل شيء الا المحكمه، القاضي فيها جلاد والجندي جلاد، والمكان جلاد، اما الطفل الضحية اضحى مجرما في نظرهم، ممنوع عليه ان يعيش وممنوع عليه ان يتنفس، وكل ذلك بحكم القانون، اي قانون يعاقب كهلا وإمرأة عجوز دفعها الشوق لرؤية ابنها وحفيدها السجين؟ اي قانون يعاقب من جاء معتقدا انه سيحضر محكمه؟ هذا القانون بحاجة الى انسنة،لعل انسنته تحاكم وتعاقب من وضعه، فالمجرم الحقيقي ومن يستحق العقاب هو من يعاقب من لا يرتكب جرما او خرقا، وما يحدث في محاكمهم هو معاقبة ومحاكمة اهالي الاسرى بدون اي ذنب، فمن شرع ووضع هذه القوانين والانظمة هم من بحاجه الى المحاكمة والعقاب.

هذه المشاق والتعب والارهاق والذل والالم والمعاناة تخص الاهل الذاهبين للمحكمه، فما بالكم حجم المعاناة التي يعانيها الاسير نفسه، من رحلة سفر طويلة قد تستمر لاكثر من ثلاثة ايام في البوسطه( البوسطه: سياره مقاعدها من الحديد وهي اشبه بزنزانه متنقلة معدة ومجهزة لنقل الاسرى، ويتم فيها وضع القيود الحديدية في ايدي واقدام الاسرى) ذهابا الى المحكمة وإيابا السجن الذي يقيم فيه، أي عقل بشري يستطيع ان يستوعب بقاء الاسير الفلسطيني مدة تزيد عن ثلاثة ايام مقيد اليدين والارجل من اجل حضور جلسة محاكمة؟ انه القانون الاحتلالي الذي يصدر حكمه مسبقا على الفلسطيني، انه ادانة مسبقه وآليات عذاب مدروسة ومخططة تمارس على الجميع سواء ادانته محاكمهم ام لم تدينه، وكأن لسان حالهم طالما انه فلسطيني فإن العقاب والعذاب واقع وواجب عليه.

منقذ ابو عطوان

باحث مختص في شؤون الاسرى

Mongith1969@hotmail.com


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة