تلفزيون نابلس
رحلة إلى الوجع الفلسطيني أوجاع الخليل
5/13/2015 10:17:00 AM

 كتب: واسيني الأعرج: شيء في فلسطين يقاوم الموت، لدرجة أشعر فيها أحيانا أنها أحسن حالا من الكثير من الدول العربية، على الرغم من مأساة الاحتلال القاسي الذي يكسر الآمال والأشواق الحية، التي كلما رآها تنبت في عيون الأطفال والزهر والنرجس والزيتون، ركض إلى طمسها، في محاولة قد تكون يائسة لإطفاء شعلة الحلم والحياة.

مدينة الخليل لا تشبه بقية مدن الضفة. بطبيعتها الاستثنائية أولا. لا يمكن لمن يكتفي بالصورة الإعلامية الجاهزة أو المنمطة، حتى عندما تكون النية المتخفية من وراء ذلك طيبة. مدينة مطعونة في كبرياء جسدها. مسروقة وممزقة بعنف. شارع الشهداء الذي لم يكف عن تبرير اسمه في كل لحظة، يمتد طويلا بدكاكين مغلقة كانت عز الفعل التجاري قبل التسعينيات، وقبل أن يوقف امتداده معبر جامد، هو عبارة عن كتلة إسمنتية كل شيء فيها ينضح بالخوف الغبي لإنسان يخاف حتى من الزلال التي تعبر فوق رأسه أو من أمامه.

يضاعف سمك الإسمنت المسلح هذا الخوف، لدرجة أن يتحول إلى قبر قديم. الفلسطيني يعرف جيدا أنه تحت أسوأ آلة استعمارية إذا جازت التراتبية في الاحتلال، لكن كيف يعيش القوي عسكريا داخل هذا البونكر؟ حالة الخوف تظهر جليا أنه يسكن داخل رعب ينتظر من خلاله ما لا ينتظره.

عندما تجاوزت المعبر برفقة الدكتورة رزان إبراهيم، ابنة مدينة طولكرم، وسامح خضر، مدير متحف درويش، مع دليلنا الصديق الإعلامي الجميل رائد شريف، ووقفنا قليلا نتأمل الأماكن التي نهبها المحتلون بقوة النار، ويشرح تفاصيل الاحتلال اليومية، وهو ابن المدينة، ركض نحونا عسكري إسرائيلي مثقلا بأسلحة وواقيات تقربه أكثر من أبطال ألعاب الغيمبوي من إنسان. أصبعه على الزناد. نظر إلينا بتوجس، كأنه يخاف من الهواء الذي كان يتنفسه ومن النحلات التي كانت تنام في عمق الزهور المتوحشة، على حواف الطريق، ومن الذبذبات الصوتية للأطفال والكبار التي تأتي من البيوت الواطئة في شكل تراتيل جنائزية، بعد أن سرق المحتل غيمها وسماءها وشمسها فقط ليبين، في كل لحظة لمن لا يدري، أنه هنا بآلته وغطرسته. بكل مواصفات المحتل الذي لا يملك إلا لغة الخوف ولباس العسكر الذي لا يقي من الخوف ولا يدفئ من المفاجأة التي تولدها المظالم. أشتهي أن أقرأ في العيون. كنت أتساءل وأنا أنظر إلى وجه العسكري الطفولي الذي لم ينبت بعد شعر على وجهه: أية حياة يعيشها؟ هل يدرك ذلك وهو القادم من بعيد، من بولونيا أو روسيا، برفقة أهله؟ هل سيقاوم هذا الخوف قبل أن يتحول بسرعة إلى ذئب بمجرد، أن يذوق الدم ويصاب بلذته، أم سيفكر كما الكثيرين في المغادرة؟

تحت إلحاحه، انسحبنا. الخليل ليست مدينة ميتة، لكنها مجروحة في العمق وموجوعة.

كان علينا أن نلف قرابة الكيلومتر لنصل إلى الحي القديم الملتصق بالبيوت التي تحولت إلى بيوت للمستوطنين بعد أن طرد الكثير من سكانها الأصليين. مع أن انحدارا بسيطا من وراء المعبر يلقي بنا في عمق المدينة، لكنه مغلق. أدخلنا رائد إلى بيت خليلي قديم. في الشارع روائح تشبه روائح الفقر والبحث عن سبل العيش والموت المتخفي في كل مكان. دخلنا البيت. استقبلنا صاحبه وضيفنا على قهوة. وجدنا يابانيين مستعربين يتحدثون مع العائلة، ويسألونها عن شطط العيش. كان صاحب البيت يتحدث بطلاقة، بينما زوجته الثانية تنظر في وجوهنا كمن خبأ الخوف والموت في كفه استعدادا لرميه من السطح، لأن النافذة مغلقة وملحومة بالحديد. زوجته الأولى فقدت عقلها بسبب أحد المستوطنين الذي قذف من الأعلى بحجرة جاءتها على رأسها فأفقدتها وعيها قبل أن تدخلها في غيبوبة استمرت طويلا، أفقدتها مع الزمن عقلها. قال الرجل وهو يرسم حزنا تخترقه من حين لآخر لمعات كانت تتشكل في عينيه: هذه زوجتي الثانية. بنت المخيمات. لا تعرف الخوف. لم يعد لنا ما نخسره اليوم. في مرة من المرات هاجمنا المستوطنون وظلوا يدقون على الباب. تساءلت ماذا أفعل. صممت أن أحمي أبنائي وأن أقاوم. نزعت قنينة الغاز وحملتها بين ذراعي وأشعلت النار على رأس أنبوبها وخرجت. كانوا جماعة من المستوطنين. بمجرد أن رأوا القنينة مشتعلة، تراجعوا وهم في حالة جزع ورعب، يطأون بعضهم بعضا، ثم هربوا. لا يريدون أن يموتوا. سرقوا حياتنا ليستمروا. نحن أيضا نحب الحياة، لكننا نكره الذل. هذه حياتنا اليومية.

رافقنا أخوه نحو سطح البيت. بدا تحت نظرنا العسكري الإسرائيلي صغيرا وضئيلا. مرة أخرى يرفع يده ويصرخ بأن لا نظل هناك. سحبنا صاحب البيت: ما تعرف شو يا اللي برؤوسهم. العائلة تعيش على ما تخيطه الزوجة من ألبسة وشالات فلسطينية. ماكنة خياطة قديمة عبرت أزمنة كثيرة وأيدي كثيرة، قبل أن تصل إلى هذا المكان. ماذا لو تحدثت هذه الماكنة؟ في فلسطين كل شيء يتكلم ولم يخسر لسانه. صاحب البيت يخرج، ليس بعيدا عن مسكنه ليبيع ما تخيطه زوجته خوفا من أن يأتي المستوطنون في غيابه.

في فلسطين، الحياة معلقة على كلمة أو حركة أو نظرة أو حتى على غيمة صعدت إلى سطح البيت لتنظر إليها وتشعر بأن قوة الحياة ما تزال هنا.

غادرنا المكان. شيء ما في الخليل لا يموت، ولا يفقد ألقه، ولا يصيبه الصدأ. شيء ما يتخفى عميقا في عيون الناس اسمه إرادة الحياة. مشينا في الحي القديم الذي تغطي بعض أسطحه شبابيك متآكلة، وقطع البلاستيك القديمة، لأن المسافة بين الفلسطيني وبين الذي يتربص به ليست بعيدة. عرفت أنهم يغطون سماء الخليل، لأن جزءا منها سرقه المستوطنون الذين كلما وجدوا الفرصة سانحة، رموا عليهم الفضلات والبول والأوساخ وكل ما لا يمكن تخيله. لكي تستمر الحياة وضعوا الشبابيك لتغطية الحي، قبلوا بأن يتخلوا عن سماء أصبحت سجينة مثلهم. وتشعر أن الهواء نفسه لو تمكن المحتل من وضعه في علب أو امتصاصه، ما تردد ثانية واحدة.

لأول مرة أدركت أنا الذي يميل نحو السلام والحوار، بأن المسافات كبيرة والهوة تتسع في كل ثانية، وأن العداوة لم تعد عداوة، ولكن أكثر من ذلك. كيف يكبر الأطفال الذي يملأون الحي القديم في ظل القسوة والظلم؟ عندما تسأل أحدهم، تكتشف فجأة أن الخط بينه وبين المستوطن بلغ درجة عليا من الكراهية والحقد بحيث من الصعب تصور غير الاصطدام، والفجوة لم تضق ولكنها تتسع كل يوم أكثر.

لم يتحول الجندي الإسرائيلي إلى شيء أليف في المشهد العام. بل يذكر الفلسطيني، والزائر أيضا، والمولود الذي يفتح عينيه في ظل الأسلاك والموانع والحواجز الإسمنتية الثقيلة، أن الاحتلال ما يزال هنا وليس مستعدا للخروج إلا بقوة مضاهية له. عند نهاية الدرب المؤدي إلى الحرم الإبراهيمي، الذي تمنيت زيارته، المنطق نفسه. يوجد هناك أيضا معبر آخر، ليس أقل عفنا من معبر قلندية الذي اختزل كل الأحقاد البشرية ولخصها في معبر ضيق يتحول فيه الإنسان إلى أقل من حيوان من وراء الشبابيك الحديدية القاهرة التي يصغر أمامها كل شيء إلا الحقد الذي يشتعل في كل ثانية. عبرنا بدون إشكال تحت عيون الحرس الإسرائيلي. ظننت أن الأمر انتهى هنا، لكن فوجئت بمعبر عسكري أكثر رقابة. ينظر الحرس في عمق العيون. سألني العسكري. مسلم. قلت نعم. ثم كأنه يعتذر: المسلمون يشترطون ذلك. لا يمر من هنا إلا المسلم. كدت أصرخ: وأنت ماذا تفعل في هذا المكان؟ سيدنا إبراهيم الخليل لم يكن يرتدي خوذة، ولم يكن يحمل سلاحا، ولا يسأل الناس العابرين نحو قلبه عن هوياتهم. قال سامح: هؤلاء كتاب في ضيافة متحف درويش. مررنا بدون حتى أظهار الهويات. القبور تسرق أيضا. جزء من مقام سيدنا إبراهيم الذي ينام وحيدا في الأنفاق، ولا يمكن لأحد أن ينزل نحو مقامه إلا من ثقب صغير يظهر شموعا تحترق في صمت داخل عتمة معممة. سرق قبر سيدنا يوسف وجزء مهم من المقام وأصبح تحت السلطة الإسرائيلية في عمق الأراضي الفلسطينية. ماذا لو ظل هذا المقام مفتوحا على كل الأديان؟ يسجد قوة سلطان تسامحها؟ ألم يكن سيدنا إبراهيم كذلك في الكتب المقدسة والمرويات القديمة؟ كم يبدو ذلك بعيدا ومحزنا أيضا. كيف لحق التمزق سيدنا إبراهيم وزوجاته وأبناءه، وكأنه الاستعارة الجارحة التي تختزل فلسطين ما قبل النكبة وما بعدها. على الرغم من هذه الظلمة، ما يزال الفلسطيني يعيد صياغة الحياة، داخل الألم والأمل الصغير وحتى الشهادة، عندما يفرض عليه الانتفاء الكلي والتنكر لحقه الأدنى: الحياة.

 


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة