تلفزيون نابلس
عالروزنا عالروزنا: فضيحتنا بتوزيع موسيقي جديد
3/3/2015 9:35:00 AM

 

بقلم -  سلطان القيسي


 ليس أكثر من التراث الشامي تشابكاً وتعقيداً، ولهذا دواعٍ كثيرة، لعل من أهمها تقارب قطاعات الشام الأربعة من حيث المسافة، بحيث يمنح المستوى المستطيل أو المربع الذي تقع عليه مركزيةً لكل واحد من هذه القطاعات بالتساوي، يضاف إلى ذلك موقع الشام عموماً في المنطقة، كممر لحضارات متمايزة: الرافدية (العراق)، والفارسية، والعثمانية، والمصرية أيضاً، من دون أن نغفل فوق هذا كله التقارب الكبير في اللهجة والبيئة بعد أن انصهرت الحضارات الأربع: العمورية (سوريا)، والكنعانية (فلسطين)، والفينيقية (لبنان)، والنبطية (الأردن)، في حضارة واحدة وهي الشامية.

ولعل أغنية “الروزنا” مثال واضح لصورة هذا التشابك، وليس أدل من الخلاف العارم على تاريخ هذه الأغنية، بين اللبنانيين والسوريين من جهة، والفلسطينيين من جهة أخرى.

هناك روايتان قويّتان في هذا الصدد؛ تقول الأولى إن العثمانيين أيام الاستعمار أرسلوا باخرةً محملة بالبضائع إلى الساحل السوري، بأسعار زهيدة، وكانت الغاية أن تتكدس بضائع بيروت وتفسد، إلا أن رجالات حلب قرروا أن يتركوا الباخرة العثمانية ويتجهوا إلى بيروت لشراء بضائع إخوتهم اللبنانيين وإن كان السعر مضاعفاً، فلم يجد البيروتيون وسيلة لشكر أهل حلب، سوى أن يغنوا لهم:

عالروزنا عالروزنا

كل البلا فيها

وإيش عملت الروزنا الله يجازيها

يا رايحين ع حلب

حبي معاكم راح

ويا محملين العنب

تحت العنب تفاح

كل من حبيبه معه وأنا حبيبي راح

ويستند أصحاب هذه الرواية إلى أن الباخرة العثمانية كان اسمها روزنا.

 

 

أما الرواية الفلسطينية فتقول إن تاجراً كان يمر بإحدى القرى مصطحباً ابنه، ابنه الذي وقع في حب فتاة من دار “أبو البنات”، أبوها الذي كان يلقب بهذا اللقب لأن زوجته الميتة لم تخلف له إلا “كوم بنات”، ما جرّ عليه “عاراً” مجانياً في القرية.

كان التاجر قاسياً على ولده وعلى حمارهما، يحمل عليه شتى أنواع البضائع: مناديل الحرير الحمراء، والبخور، والفواكه أيضاً. مرةً وبّخ ابنه في ساحة السوق، وأسرف في توبيخه حتى سرت قصته في القرية كلها، فقط لأنه وضع العنب فوق التفاح، ظناً منه بأن هذا أَقْوَم، حيث بمقدور التفاح الصلب أن يحمل العنب الطري دون أن يَفسدَ أو يتألم.

لكن والده القاسي لم يشعر بلوعة العنب الطري، حين أمره بأن يضع التفاح فوق العنب، لأن التفاح أغلى، فلا بأس إن تفّحَ التفاحُ العنبَ؛ سيصير أغلى، أما إن عَنّبَ العنبُ التفاحَ فإن التفاح سيخور سعرهُ ويؤول إلى بائع “العنبر” ككنز وفير.

بنت “أبو البنات” وقعت في حب الفتى أيضاً، وزادها خبر التفاح والعنب انبهاراً بعاطفته، وحسن تدبيره، وضميره الحي الذي لم يغفل عن ضعف عناقيد العنب حتى، تملكتها رأفته في العنب، واتخذتها دليلاً على رجولته التي ستمدها بأمان مطلق، فأهدته لقاءً بعد أن فتلت جدائلها وتأنقت بثوبها البسيط، ومدت له يدها لتنقذه من فخ الحب، إلا أنها سقطت معه في ذلك الفخ؛ فبعد أن كان عليهما أن يخططا لإقناع والده الجشع بتزويجه بنتاً فقيرة موسومة “بالعار” الذي ارتكبته أمها لأنها لم تنجب رجلاً يحمل اسم أبيه، صار عليها لوحدها أن تقنع أباها بأنها لم ترتكب خطيئةً، بعد أن وشت أختها الغيورة عن لقائها بفارسها الرهيف القلب، وبلقائهما الدوريّ من نافذة غرفة الخزين الصغيرة التي يسميها أهل بلاد الشام “الروزنا”.

مُنع التاجر وابنه العاشق من المرور بالقرية، وأغلق “أبو البنات” الروزنا، واعتقل ابنته العاشقة في غرفة الخزين إلى أجل غير مسمى، رغم علمه بأن الروزنا ليس لها أن تُدخل فأراً، لكنه ليس بحاجة إلى “عار جديد” يضاف إلى كومة “العار” التي خلفتها زوجته.

التاجر وابنه العاشق، اتجها إلى حلب من غير رجعة، دون أن يُقنع أحدهما الآخر بوجهة نظره حيال التفاح والعنب، أما الفتاة العاشقة فظلت تدافع عن عشيقها وعن أفكاره الرؤوفة، ظلت تمد خيط صوتها من تحت الباب:

عالروزنا عالروزنا

كل الهنا فيها

وايش عملت الروزنا الله يجازيها

يا رايحين ع حلب

حبي معاكم راح

ويا محملين العنب

تحت العنب تفاح

كل من حبيبه معه وأنا حبيبي راح

 

 

 

 
ليس الخلاف على صحة الروايتين مهماً، فهناك جمهور لكل رواية، لكن الأهم أن الروايتين تحاولان إرساء قيمة اجتماعية وإنسانية راقية، فالمغنون في الرواية الأولى يشكرون طيب أخوّة الحلبيين، ويرفعون لهم آية امتنان مشغولة بحس عالٍ وواعٍ. والبنت في الرواية الثانية تنسج لفتاها أغنية من حرير حزنها، أملاً بأن يوصلها أحد، ولقد كان الناس أوفياءً إذ نقلوا أغنيتها إلينا ونحن نبعد عنهم زماناً ومكاناً، فلا بد أنهم قد أوصلوها للفتى العاشق الذي كان يبعد عنهم مكاناً فقط.

 

ولكن السؤال الذي يلمع هنا كنصل: ألم يكن هؤلاء الأمناء في حمل صوتها ذاتَهم الوشاةُ والعذّال الذين فرّقوا بين حبيب وحبيبته؟!

إنها القسوة السوداء التي تغلبت على الأغنية الخلاّبة، كسرتها وكسرت شيئاً فينا لم نره إلا متأخرين، حين تناثر زجاجه داخلنا فجرَحنا من حيث لاندري.

أهل ذاك الزمان حملوا العطر ولم يتعطّروا، قتلوا روح البنت، وغنوا أغنيتها، لا بد أنهم غنوها لحبيباتهم، ولا بد أن هناك من رقص مترنماً على لحنها الخلاسي الذي يشد، ولكن أحداً لم يقف إلى جانب هذه النجمة التي صنعت هذا التراث، كانوا ينظرون إلى المولودة كعار، وينتظرون الولد ليحمل اسم الأب، رغم أن البنت تحمل الجسد كاملاً في أحشائها، ليس دون أن تتذمر فقط، بل إنها تقضي شهور حملها التسعة تفاخر الدنيا.

ونحن الآن ما زلنا نُنقصها حقها في الاسم، وفي التمثيل وفي أشياء أخرى وراء ذلك، ما زلنا نرتكبُ في حقها بشائع متعددة، ولكن بطريقة أكثر حضارةً، رغم وعينا الكامل بأن المدن بلا نساء تغدو كبيت العازب.. مازلنا ننقصها حقها ونغني أغنيتها أيضاً، ولكن بإيقاعات أكثر حيوية وسرعة وبتوزيع موسيقي جديد!

 

 

تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة