لا يبحث معظم الناس عن الحقائق العلمية داخل عوالم الخيال المليئة بالتنانين والسيوف والسحر، مهما بلغ نجاح تلك الأعمال. لكن المفاجأة أن سلسلة «أغنية الجليد والنار» التي بُني عليها مسلسل صراع العروش تتوافق بدقة مع إحدى أهم النظريات العلمية في فهم العلاقات البشرية: نظرية الشبكات. وهو ما يعتقد العلماء أنه أحد أسرار شعبية الرواية والمسلسل على حدّ سواء.

فقد تعاون فيزيائيون وعلماء رياضيات ونفس لتحليل شبكة العلاقات بين أكثر من 2000 شخصية وردت في السلسلة، ليصلوا إلى رقم مذهل: أكثر من 41 ألف تداخل بين الشخصيات عبر الأحداث. هذه البنية المعقدة — لكنها منطقية — منحت العمل واقعية اجتماعية تشبه الحياة الحقيقية، رغم أنه عملٌ خيالي بالكامل.

■ حدود الدماغ البشري.. وعبقرية مارتن

يستند التحليل إلى «رقم دنبار» الذي اقترحه البروفيسور روبن دنبار من جامعة أوكسفورد، والذي يشير إلى أن الإنسان قادر على إدارة علاقات اجتماعية مستقرة مع نحو 150 شخصًا فقط. أي تجاوز لهذا الحد يخلق ضغطًا إدراكيًا يؤدي إلى تفكك العلاقات.

وبرغم الجدل حول دقة هذا الرقم، فقد استُخدم على نطاق واسع لدراسة سلوك المجموعات البشرية والحيوانية على حد سواء. ويعتقد العلماء أن مارتن — دون أن يقصد — وزّع السرد بطريقة تضمن ألا يشعر القارئ أو المشاهد بالارتباك رغم ضخامة الشخصيات.

فالشخصيات الرئيسية الـ 14 في الرواية، على سبيل المثال، تتفاعل مع 154 شخصية وسطياً، ما يساعد على بناء شبكة واسعة ومفهومة، ويمنح القارئ فرصة لتتبع الخيوط المتشابكة دون أن يفقد الخيط السردي.

■ الموت… ليس عشوائيًا كما يبدو!

من أهم ما اشتهرت به السلسلة هو القتل الصادم للشخصيات، خاصة الرئيسية منها. لكن دراسة الأكاديمية الوطنية للعلوم كشفت أن الموت في عالم مارتن ليس عبثيًا. فعند تحليل كل فصل على حدة، تبيّن أن توزيع الوفيات يتبع نمطًا هندسيًا؛ غير متوقع عند وقوعه، لكنه يبدو منطقيًا لاحقًا. وهذا — بحسب الباحثين — أحد أسرار قوة العمل وقدرته على شد القارئ باستمرار.

الباحث الأول في الدراسة، توماس جيسي جونز من جامعة كامبريدج، قال إن الأدوات الجديدة المستخدمة سمحت باختبار ملاحظات القرّاء، ومنها «العادة الشهيرة» لدى مارتن في قتل الشخصيات فجأة. لكن العلم يثبت أن هذه الفوضى الظاهرة محكومة ببنية دقيقة.

■ من تحليل الخيال إلى فهم الواقع

وبينما قد يتساءل البعض: لماذا يُسخّر العلماء وقتهم لدراسة عالم خيالي؟ يرد البروفيسور كولم كونوتون من جامعة ووريك بأن فهم سبب قدرة القصص المعقدة على الوصول لعقولنا قد يفتح الباب أمام تطورات نفسية ومعرفية مهمة. فالبشر يفهمون العالم عبر القصص، لكن العلم لم يفسّر بعد كيف ولماذا نتفاعل مع بعضها أكثر من غيرها.

وليس هذا أول بحث يجمع العلم بعوالم مارتن؛ إذ سبق أن حاول علماء تطوير نموذج لمناخ ويستروس، بينما استعار علماء الأحياء أسماء شخصيات السلسلة لتسمية أنواع جديدة من النمل والنحل والتيروصورات.

■ خلاصة

من عالم خيالي مليء بالأبطال والوحوش، إلى معادلات فيزيائية ورسم خرائط اجتماعية… يكشف العلم أن نجاح صراع العروش لم يكن صدفة، بل نتيجة شبكة بشرية متقنة نُسجت بخيوط الذكاء السردي، وجعلت القصة أقرب إلى الحقيقة من الخيال.