
على مدى السنوات الأخيرة، توالت التحذيرات حول ازدياد الوقت الذي يقضيه الناس بمفردهم، حتى بدا وكأن المجتمع ينساق نحو «وباء الوحدة». أعداد متزايدة تتناول طعامها وحدها، تسافر وحدها، وتعيش وحدها — وهو نمط حياة تضاعف خلال خمسين عامًا. ومع إعلان رئيس الأطباء في الولايات المتحدة «جائحة الوحدة»، بات يُوصف عصرنا أحيانًا بأنه «قرن معادٍ للمجتمع».
لكن خلف هذا الخطاب القاتم، يبرز جانب أكثر إشراقًا يتجاهله كثيرون: العزلة ليست دائمًا وحدة… بل قد تكون نعمة صحية عميقة.
العزلة التي تمنحنا الحياة
تقول فيرجينيا توماس، أستاذة علم النفس في جامعة ميدلبيري، إنها أمضت عقدًا تدرس لماذا يختار البعض الانسحاب من الآخرين، وتفهم —بحكم تجربتها— المتعة الحقيقية التي تمنحها العزلة. فعندما تكون العزلة خيارًا لا إجبارًا، فإنها تتحول إلى مساحة خاصة لشحن الطاقة، اكتشاف الذات، وتحفيز الإبداع.
وقد كشفت دراسة حديثة لعام 2024 أن 56% من الأميركيين يعتبرون الوقت المنفرد ضرورة للصحة العقلية. حتى إن متاجر عملاقة مثل «كوستكو» باتت تبيع «أكواخ العزلة» بسعر 2000 دولار، لمن يبحث عن زاوية هادئة بعيدًا عن ضجيج العالم.
إذن، يبدو أن الرغبة بالعزلة ليست نزعة غريبة، بل حاجة باتت جزءًا من ثقافة كاملة.
ثقافة تخاف من الصمت
المجتمع الأميركي —ومجتمعات عديدة— ينظر إلى الانفراد باعتباره علامة ضعف أو غرابة. الانفتاح الاجتماعي هو النموذج المثالي، والانطوائية غالبًا وُصمت بالشذوذ. ليس غريبًا إذن أن دراسة نُشرت في فبراير 2025 وجدت أن العناوين الإعلامية تذكر الوحدة في سياق سلبي عشرة أضعاف ذكرها بشكل إيجابي.
لكن الحقائق تقول شيئًا مختلفًا:
لماذا لم تعد هواتفنا تتركنا وحدنا حقًا؟
الفوائد النفسية للعزلة لا تأتي بمجرد الابتعاد عن الناس، بل بالابتعاد عن التشتيت — خصوصًا الشاشات. فالتواجد منفردًا أمام الهاتف لا يُعد عزلة، بل «اجتماعًا افتراضيًا» دائمًا. وقد وجدت الدراسات أن قضاء الوقت أمام وسائل التواصل يقلل من أثر العزلة الإيجابي، خاصة لدى الشباب الذين يستبدلون العلاقات الحقيقية بعلاقات رقمية هشة.
العزلة الحقيقية هي لحظات ينصرف فيها الانتباه إلى الداخل:
تفكير، تأمل، استراحة، تنفس…
وقت نمضيه كما نريد، بلا التزامات ولا توقعات.
حين تصبح العزلة مهارة
إعادة تعريف العزلة قد يغيّر الكثير. فمجرد انتقالنا لغويًا من «عزلة» إلى «وقت خاص» يجعل التجربة أكثر قبولًا وراحة. وتشير الأبحاث إلى أن من ينظرون لوقتهم المنفرد باعتباره مساحة ممتلئة —لا فارغة— يشعرون بسلام نفسي أكبر ويستثمرونه في تطوير الذات.
وفي عالم يزداد ضجيجًا يوماً بعد يوم، قد تكون العزلة الإيجابية هي ما يمنحنا التوازن العاطفي الذي نفقده وسط الازدحام.
فكما أن غياب العلاقات يؤذي، فإن الإفراط في العلاقات يرهق أيضًا.
ربما لم نكن نهرب من الآخرين… بل نبحث عن أنفسنا
العزلة الإيجابية ليست انسحابًا من العالم، بل عودة إلى الذات، إلى الصوت الداخلي الذي نغرقه بالرسائل والتنبيهات والمهمات. إن انتشار العزلة قد يكون محاولة طبيعية لاستعادة مساحات سرقها الانشغال الدائم.
وبدل أن نخاف من هذا الميل المتزايد نحو العيش وحدنا، ربما علينا فهمه كخطوة إنقاذية في عالم يمضي بسرعة لا ترحم.
إنها ليست وحدة… إنها عودة إلى هدوئك الداخلي.
أخبار محلية
أخبار الاقتصاد
أخبار فلسطينية
تكنولوجيا وعلوم
أخبار عربية
|
تصميم وتطوير: ماسترويب 2016 |