
بقلم: المحامي علي أبو حبلة
لم يأتِ قرار دمج وزارة التخطيط الاستراتيجي مع وزارة المالية في توقيت اعتيادي، بل في ذروة واحدة من أعقد الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها. أزمة لم تعد تُقاس فقط بحجم العجز أو تأخر الرواتب، بل بتآكل الثقة العامة، واتساع الفجوة الاجتماعية، واهتزاز مفهوم الدولة ذاته. وعليه، فإن هذا الدمج لا يجوز مقاربته كإجراء إداري تقني، بل كخيار سياسي–استراتيجي له ما بعده.
أولًا: الدلالة السياسية للدمج… إعادة تموضع أم إدارة احتواء؟
سياسيًا، يعكس الدمج إقرارًا رسميًا بأن نموذج الفصل بين التخطيط والمالية لم يعد قادرًا على التعامل مع واقع مالي هش، يقوم على سيادة منقوصة واقتصاد مُقيّد. فالسلطة الفلسطينية لطالما خطّطت خارج قدرتها الفعلية على التمويل، وأدارت موازناتها بمنطق الاستجابة للأزمات لا بمنطق بناء الاستقلال الاقتصادي.
كما يحمل الدمج رسالة مزدوجة:
للداخل الفلسطيني: محاولة لاستعادة زمام المبادرة، وضبط الإنفاق، ووقف النزيف المالي الذي أصاب انتظام الرواتب والخدمات.
للخارج والمانحين: تعهّد ضمني بإصلاح بنيوي، وربط السياسات العامة بالموازنة، وتعزيز الشفافية والمساءلة.
غير أن هذا التموضع يبقى محدود الأثر إذا لم يُترجم إلى قرار سياسي واضح بإعادة تعريف العلاقة الاقتصادية مع الاحتلال، باعتبارها أصل الأزمة لا عرضها.
ثانيًا: البعد الاقتصادي… أزمة نموذج لا أزمة أدوات
اقتصاديًا، لا يمكن فصل الأزمة الراهنة عن بنية الاقتصاد الفلسطيني ذاته، الذي تشكّل في ظل:
تبعية قسرية للاقتصاد الإسرائيلي.
تحكم الاحتلال بعائدات المقاصة واستخدامها أداة ابتزاز سياسي.
اقتصاد ريعي يعتمد على المساعدات الخارجية.
غياب سياسة صناعية وزراعية وطنية قادرة على خلق فرص عمل.
من هذا المنظور، فإن دمج التخطيط مع المالية قد يحسّن كفاءة إدارة الموارد الشحيحة، لكنه لن يُنهي الأزمة ما لم يقترن بتغيير تدريجي في النموذج الاقتصادي القائم.
ثالثًا: البعد الاجتماعي… الرواتب كقضية استقرار وطني
اجتماعيًا، تجاوزت أزمة الرواتب بعدها المالي لتصبح أزمة ثقة واستقرار اجتماعي. فعدم انتظام الرواتب:
يهدد السلم الأهلي.
يضعف الطبقة الوسطى.
يدفع الشباب نحو الهجرة أو الانخراط في اقتصاد هش وغير منظم.
من هنا، فإن انتظام الرواتب ليس امتيازًا وظيفيًا، بل ضرورة سياسية واجتماعية، وأحد معايير قدرة السلطة على الاستمرار بوظيفتها الوطنية.
رابعًا: الانفكاك التدريجي عن إسرائيل… خيار واقعي لا شعار سياسي
الحديث عن الانفكاك الاقتصادي لا يعني القطيعة الفورية، بل مسارًا تدريجيًا مدروسًا يقوم على:
تقليص الاعتماد على أموال المقاصة عبر تنويع مصادر الإيرادات.
تعزيز الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي.
توسيع الشراكات الاقتصادية العربية والدولية بعيدًا عن الوساطة الإسرائيلية.
إعادة النظر المرحلية في الالتزامات الاقتصادية التي كبّلت الاقتصاد الفلسطيني، وفي مقدمتها بروتوكول باريس.
وهنا، يصبح دمج التخطيط والمالية أداة مركزية لتوجيه الموارد نحو اقتصاد الصمود بدل اقتصاد الاستهلاك والتبعية.
خامسًا: حلول استراتيجية للخروج من الأزمة
1. ماليًا:
إعادة هيكلة الإنفاق العام وضبطه دون المساس بالفئات الضعيفة.
إصلاح ضريبي عادل ومكافحة التهرب.
إنشاء آلية وطنية دائمة لضمان انتظام الرواتب.
رفع مستوى الشفافية ونشر البيانات المالية بانتظام.
2. اقتصاديًا:
دعم القطاعات الإنتاجية.
تشجيع الاستثمار المحلي واستثمارات الشتات.
دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
بناء سياسة إحلال تدريجي للواردات.
3. اجتماعيًا:
تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي.
ربط الإصلاح المالي بحماية الفئات الهشة.
الاستثمار في التعليم والتدريب المهني.
4. سياسيًا:
تدويل قضية احتجاز أموال المقاصة.
توحيد الموقف الوطني حول أولويات الانفكاك الاقتصادي.
ربط الإصلاح المالي برؤية سياسية تحررية واضحة.
خلاصة استراتيجية
إن دمج وزارة التخطيط الاستراتيجي مع وزارة المالية خطوة ضرورية في الاتجاه الصحيح، لكنها تبقى خطوة ضمن مسار أطول وأعمق. فالأزمة الفلسطينية ليست أزمة موازنة فقط، بل أزمة اقتصاد تحت الاحتلال.
النجاح الحقيقي لهذا الدمج لا يُقاس بترشيد النفقات فحسب، بل بقدرته على:
حماية الاستقرار الاجتماعي.
ضمان انتظام الرواتب.
ووضع أسس انفكاك تدريجي ومدروس عن الاقتصاد الإسرائيلي.
فالخروج من الأزمة يبدأ بإدارة واعية، لكنه لا يكتمل إلا بقرار سياسي يعيد الاعتبار للاقتصاد كأداة صمود وتحلل وطني، لا كوظيفة تابعة لمنظومة الاحتلال.
تكنولوجيا وعلوم
أخبار الاقتصاد
أخبار فلسطينية
أخبار اسرائيلية
أخبار اسرائيلية
|
تصميم وتطوير: ماسترويب 2016 |