تلفزيون نابلس
كوكا كولا
**"انتفاضة الحجارة".. بعد ثمانية وثلاثين عامًا: قراءة استراتيجية في إعادة تشكّل الوعي الفلسطيني وإدارة الصراع**
12/9/2025 1:04:00 AM

**"انتفاضة الحجارة".. بعد ثمانية وثلاثين عامًا: قراءة استراتيجية في إعادة تشكّل الوعي الفلسطيني وإدارة الصراع**

بقلم المحامي علي أبو حبلة

تمثل الذكرى الثامنة والثلاثون لاندلاع انتفاضة الحجارة لحظة استثنائية لاستحضار واحدة من أهم محطات التاريخ الفلسطيني المعاصر؛ تلك الانتفاضة التي لم تُعدّل فقط موازين القوى في مواجهة الاحتلال، بل أعادت تشكيل بنية الوعي الوطني، ورسّخت أسسًا جديدة لإدارة الصراع، أبرزها: مركزية النضال الشعبي، ووحدة الموقف الوطني، والتأثير في الرأي العام الدولي من بوابة مقاومة مدنية سلمية واسعة النطاق.

أولًا: الانتفاضة في سياقها التاريخي ودورها في إعادة صياغة الهوية الوطنية

انفجرت الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987 تعبيرًا عن تراكم طويل من الاضطهاد وسياسات الاستيطان والإقصاء، لكنها تحوّلت خلال أسابيع قليلة إلى حركة وطنية جامعة ذات زخم شعبي غير مسبوق.

لقد أعادت الانتفاضة الاعتبار لـ فلسفة المقاومة الشعبية القائمة على الفعل الجماهيري المدني، ونجحت في دمج مختلف مكونات الشعب الفلسطيني—في المدن والمخيمات والقرى—ضمن حركة احتجاج منظمة باتت بحد ذاتها رافعة سياسية وإعلامية وقانونية أثبتت أنّ الشعب الفلسطيني ليس مجرد طرف ضعيف، بل فاعل قادر على فرض أجندته.

كما أعادت الانتفاضة إحياء الهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة محاولات الطمس والتذويب، وخلقت جبهة صلبة عابرة للفصائل والانتماءات، توحدت حول شعار أساسي: إنهاء الاحتلال وتحقيق الحرية.

ثانيًا: البعد القانوني – من المواجهة الميدانية إلى تدويل العدالة

على المستوى القانوني، شكّلت الانتفاضة نقطة محورية دفعت المجتمع الدولي إلى إعادة تقييم السلوك الإسرائيلي وفق القانون الدولي الإنساني.

فقد وثّقت التقارير الحقوقية:

استشهاد 1162 فلسطينيًا بينهم 241 طفلًا.

إصابة 90 ألفًا بجروح مختلفة.

هدم 1228 منزلًا واقتلاع 140 ألف شجرة، في إطار سياسات عقاب جماعي تتنافى مع اتفاقيات جنيف.

اعتقال 60 ألف فلسطيني دون ضمانات قانونية كافية للمحاكمة العادلة.

هذه الانتهاكات، الموثّقة في تقارير دولية، دفعت إلى وضع إسرائيل تحت مجهر الانتقاد الدولي، ورسخت مطالبة فلسطينية قانونية بمحاسبة الاحتلال على جرائمه، ومنحت الشرعية للمقاومة الشعبية باعتبارها أسلوبًا مشروعًا ضد القوة القائمة بالاحتلال وفق القانون الدولي.

ثالثًا: الأبعاد السياسية والاستراتيجية – حين تهتز صورة "الجيش الذي لا يُقهر"

لم تكن انتفاضة الحجارة مجرد حدث جماهيري، بل شكّلت تحولًا استراتيجيًا في بنية الصراع مع إسرائيل.

لقد كسرت الانتفاضة الهالة التي أحاطت بالجيش الإسرائيلي، وكشفت محدودية القوة العسكرية في مواجهة احتجاج شعبي واسع النطاق، قائم على أدوات بسيطة غير مسلحة، لكنها ذات أثر رمزي وسياسي بالغ.

ويمكن تلخيص النتائج السياسية الرئيسية للانتفاضة في أربعة محاور:

1. إعلان الاستقلال 1988 بوصفه حدثًا تأسيسيًا استند إلى شرعية نضالية واسعة.

2. فرض مسار المفاوضات وصولًا إلى اتفاق أوسلو، نتيجة ضغط دولي رافق استمرار الانتفاضة.

3. نقل الرواية الفلسطينية إلى العالم عبر صور المواجهات اليومية التي شكلت نقطة تحول في الإعلام الدولي.

4. إعادة توحيد الفعل الوطني ضمن إطار واحد وبرنامج سياسي مشترك.

لقد أثبتت الانتفاضة أن الشعب الفلسطيني قادر على التأثير في البيئة الدولية، وأن المعركة مع الاحتلال ليست عسكرية فقط، بل معركة على الوعي والرأي العام والشرعية السياسية.

رابعًا: الانتفاضة كرافعة للصمود الوطني وتأسيس نهج المقاومة المدنية

نجحت الانتفاضة في خلق بنية مجتمعية صلبة قوامها التكافل والتضامن الشعبي وتحمّل المسؤولية الجماعية، وبذلك تحولت إلى مدرسة في التنظيم الشعبي، عصية على الاختراق، وقادرة على إنتاج مبادرات ذاتية أفرزت قيادات ميدانية جديدة.

كما أسست الانتفاضة لنموذج مقاومة مدنية متكامل يجمع بين الاحتجاج الشعبي، والمقاطعة الاقتصادية، والإضرابات، وإدارة العصيان المدني، في مشهد قلّ نظيره في الصراعات الحديثة.

خامسًا: الذكرى في ظل حرب الإبادة على غزة وتفكك المشهد الإقليمي والدولي

تحلّ ذكرى الانتفاضة اليوم ضمن واقع بالغ التعقيد، يتمثل في:

حرب إبادة شاملة على قطاع غزة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر.

تصعيد عسكري واستيطاني في الضفة الغربية.

إعادة تشكيل النظام الدولي في ظل تنافس القوى الكبرى.

محاولات قضم تدريجي لعناصر القضية الفلسطينية وفرض حلول منقوصة.

هذا السياق يحتم العودة إلى دروس الانتفاضة الأولى، ليس بوصفها ذكرى تاريخية، بل باعتبارها منهجًا عمليًا لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.

سادسًا: دروس استراتيجية مطلوبة للمرحلة الراهنة

إن التجربة التاريخية للانتفاضة تطرح مجموعة من الدروس ذات الطابع الاستراتيجي:

الوحدة الوطنية ليست خيارًا تجميليًا بل شرطًا وجوديًا لحماية المشروع التحرري.

ضرورة تشكيل حكومة إنقاذ وطني أو حكومة تكنوقراط قادرة على توحيد غزة والضفة تحت مرجعية واحدة.

اعتماد استراتيجية مقاومة شعبية منظمة متوازية مع أدوات دبلوماسية وقانونية فعالة.

تعزيز الصمود الاقتصادي والاجتماعي لحماية النسيج المجتمعي.

استثمار التضامن الدولي الواسع مع ضحايا غزة لتعزيز مكانة القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.

بلورة رؤية مستقبلية تُحَوِّل التضحيات إلى مكاسب سياسية وقانونية طويلة الأمد.

سابعًا: سؤال المستقبل – هل يمكن استعادة روح الانتفاضة؟

إن إعادة إنتاج نموذج انتفاضة الحجارة بصيغته الكلاسيكية لم يعد ممكنًا بالآليات ذاتها، لكن استعادة روحها—بما تمثله من وحدة وطنية، وزخم شعبي، ومقاومة مدنية منظمة—يبقى ممكنًا وضروريًا في إطار قراءة دقيقة للمتغيرات الميدانية والسياسية والاجتماعية.

فالانتفاضة ليست حدثًا محصورًا في زمن مضى، بل هي فلسفة عمل قابلة للتكيّف مع المرحلة الراهنة وأساليب السيطرة الإسرائيلية والنظام الدولي الجديد.

خاتمة

بعد ثمانية وثلاثين عامًا، ما تزال انتفاضة الحجارة محطة مضيئة في التاريخ الفلسطيني، ونقطة تحوّل مفصلية أثبتت أنّ الشعوب، مهما ضاقت الخيارات، قادرة على إعادة تشكيل مسارات تاريخها عبر وحدة الإرادة والوعي والهدف.

وفي ظل تحديات وجودية غير مسبوقة، فإن استلهام تجربة الانتفاضة لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة وطنية لإطلاق مرحلة جديدة تقوم على:

الوحدة – الصمود – التنظيم – الفعل الشعبي – الحضور الدولي – والتمسك بالحقوق غير القابلة للتصرف.


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة