تلفزيون نابلس
كوكا كولا
حين تعجز الحكومة عن تأمين فاتورة الرواتب وتلبية الاحتياجات الأساسية... إلى أين تتجه البوصلة؟
10/11/2025 5:25:00 PM

إعداد: المحامي علي أبو حبلة

رئيس تحرير صحيفة صوت العروبة

 في كل دولة، تُعدّ القدرة على تأمين رواتب الموظفين وتوفير الحاجات الأساسية للمواطنين معيارًا رئيسيًا لشرعية الحكومة واستقرارها. وحين تفشل السلطة التنفيذية في الوفاء بهذا الالتزام، لا يمكن توصيف الأمر على أنه أزمة مالية عابرة، بل هو مؤشر على أزمة حكم شاملة تشمل خللًا في الإدارة العامة، وضعفًا في الرؤية الاقتصادية والسياسية، وغيابًا واضحًا للإرادة الجادة في الإصلاح والمساءلة.

لقد وصلت الأزمة الفلسطينية إلى مفترق خطير لم تعد تجدي معه التبريرات التقليدية. فالحكومة التي قدّمت تنازلات سياسية واقتصادية تحت ضغط المانحين، وسعت لتلبية الاشتراطات الأوروبية في مجالات الحوكمة والإصلاح المالي والإداري، لم تجنِ سوى مزيد من العجز والضغوط.

فلم يتحقق دعم مالي أو سياسي حقيقي يوازي حجم تلك التنازلات، بل تفاقمت الأزمة وتعززت التبعية الاقتصادية، واتسعت الفجوة بين السلطة والمجتمع، وبين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي المؤلم الذي يعيشه المواطن الفلسطيني يوميًا.

أزمة ثقة ورؤية غائبة

لقد تآكلت ثقة الشارع الفلسطيني بالحكومة بسبب تراكمات من الوعود غير المنفذة وقرارات مرتجلة وسياسات اقتصادية آنية تعتمد على المسكنات لا على حلول استراتيجية.

فالرواتب تتأخر، والضرائب ترتفع، والأسعار تشتعل، فيما تتراجع قدرة المواطن على تحمّل أعباء الحياة وسط غياب شبه كامل لدور الحكومة في حماية الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

إنّ العجز عن تأمين فاتورة الرواتب لا يُختزل في شحّ الموارد، بل يعكس غياب رؤية وطنية شاملة لإدارة المال العام، وتآكل قاعدة الإنتاج المحلي، واستمرار الارتهان لاتفاقية باريس الاقتصادية التي كبّلت الاقتصاد الفلسطيني وربطته بعجلة الاحتلال وتحكمه بالمقاصة والمعابر والموارد.

تنازلات دون مقابل

لقد التزمت الحكومة بشروط أوروبية عديدة تتعلق بالحوكمة والمساءلة والإصلاح الإداري، بل تجاوبت أحيانًا مع اشتراطات سياسية تمس القرار الوطني المستقل، ومع ذلك لم يُترجم هذا الالتزام إلى أي دعم فعلي أو تخفيف للأزمة الاقتصادية.

فما زال الاتحاد الأوروبي والدول المانحة يمارسون سياسة "الانتقائية" في تقديم الدعم، ويشترطون مقابل كل دفعة مالية ثمنًا سياسيًا جديدًا.

هذه المقايضة الخاسرة بين التزامات سياسية قاسية ووعود مالية مؤجلة أثبتت أن المساعدات المشروطة لم تكن يومًا بديلًا عن السيادة الوطنية أو عن بناء اقتصاد إنتاجي مستقل. فالاعتماد على الخارج دون إصلاح داخلي حقيقي هو وصفة أكيدة لاستمرار التدهور، لا لإنهائه.

ما المطلوب اليوم؟

لم يعد أمام الحكومة سوى إعادة تصويب البوصلة الوطنية والاقتصادية، من خلال مراجعة شاملة للسياسات القائمة واستبدال النهج القائم على التبرير بنهج يقوم على الشفافية والمصارحة والمساءلة.

وفي هذا السياق، تبرز مجموعة من الخطوات العاجلة التي باتت ضرورة وطنية لا خيارًا سياسيًا:

1. إعادة بناء الثقة من خلال شفافية كاملة في إدارة المال العام، والإفصاح عن الإيرادات وأوجه الإنفاق، وفتح جميع ملفات الفساد والمساءلة الجدية لكل من تورط في تبديد المال العام.

2. تشكيل حكومة إنقاذ وطني مهنية بعيدة عن المحاصصة الحزبية، تُعنى بوضع خطة اقتصادية واقعية قائمة على الإنتاج الذاتي، لا على المنح المشروطة.

ومن أولوياتها استعادة الاستثمارات الفلسطينية في الخارج، وتشكيل لجنة وطنية للتحقيق في مصادر هذه الأموال والإيداعات المصرفية بهدف توظيفها لخدمة التنمية الوطنية.

3. مراجعة العلاقة الاقتصادية مع الاحتلال والتحرر التدريجي من قيود اتفاقية باريس، بما يضمن بناء منظومة اقتصادية مستقلة تستند إلى الإنتاج الزراعي والصناعي المحلي.

4. اعتماد سياسة تقشف عادلة ومنصفة تستهدف الامتيازات العليا في الإنفاق الحكومي، دون المساس بحقوق الموظفين والفئات الفقيرة.

5. تعزيز الشراكة الوطنية والمجتمعية عبر إشراك القوى السياسية والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني في رسم السياسات العامة وصياغة الأولويات الوطنية.

6. التحرك الدبلوماسي المتوازن لإعادة صياغة العلاقة مع المانحين الأوروبيين على أساس الندية والاحترام المتبادل، ورفض سياسة الإملاءات المشروطة التي تنتقص من القرار الوطني المستقل.

خاتمة

لم يعد مقبولًا أن تستمر الحكومة في تعليق فشلها على "العوامل الخارجية" أو على "تعقيدات المرحلة". فالمسؤولية الوطنية تقتضي مصارحة الشعب بالحقيقة وتحمل المسؤولية بشجاعة وشفافية.

الحكومة التي تفشل في حماية كرامة مواطنيها وتأمين الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم، وتُمعن في التنازلات دون مردود، تفقد عمليًا مبرر وجودها السياسي والأخلاقي.

لقد آن الأوان لأن تُدرك القيادة الفلسطينية أن الكرامة الوطنية لا تُقاس بالخطابات السياسية ولا بالبيانات الدبلوماسية، بل بقدرة الدولة على تأمين رغيف الخبز والدواء وراتب الموظف.

وأي تنازلات جديدة تحت ذريعة الواقعية السياسية أو الرهان على دعم خارجي مشروط، إنما تعني السير في طريق مسدود يزيد من هشاشة البنية الوطنية ويعمّق التبعية الاقتصادية والسياسية.

إنّ الشعب الفلسطيني يستحق حكومة تملك الشجاعة لتقول "لا" حين تكون الكرامة على المحك، ولتضع المواطن في صدارة الأولويات، لا في هامش البيانات الرسمية.

فمن لا يستطيع أن يصون كرامة المواطن، لا يمكنه أن يحمي كرامة الوطن.

 

 

.


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة