تلفزيون نابلس
كوكا كولا
نحو رؤية استراتيجية فلسطينية للانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال الإسرائيلي
8/4/2025 7:01:00 PM

 نحو رؤية استراتيجية فلسطينية للانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال الإسرائيلي


إعداد: المحامي علي أبو حبلة – رئيس تحرير صحيفة صوت العروبه 

مقدمة: بين الأزمة المالية والاختبار الوطني

تخوض القضية الفلسطينية واحدة من أكثر مراحلها حساسية وتعقيدًا، ليس فقط بفعل العدوان العسكري والتغول الاستيطاني، بل نتيجة خضوع القرار الاقتصادي الفلسطيني لهيمنة الاحتلال الإسرائيلي، عبر آليات مالية وقانونية أبرزها نظام المقاصة واتفاق باريس الاقتصادي. ومع تفاقم الأزمات وتكرار التنازلات، تبرز الحاجة إلى رؤية استراتيجية واضحة للانفكاك التدريجي عن الاحتلال الاقتصادي، تعيد صياغة العلاقة من موقع القوة والحقوق لا التبعية والابتزاز.

أولاً: اتفاق باريس الاقتصادي – قيد قانوني أم فرصة للتحرر؟

تم توقيع اتفاق باريس الاقتصادي في 29 نيسان/أبريل 1994 كملحق لاتفاق أوسلو، وكان يفترض أن ينظّم العلاقة الاقتصادية بين الطرفين لمدة 5 سنوات فقط، إلا أن هذا الاتفاق استُبقي قسرًا لعقود دون مراجعة فعلية، رغم تغير الظروف وتبدل السياقات كليًا.

أبرز بنوده المجحفة:

سيطرة إسرائيلية شبه مطلقة على المعابر والمنافذ الجمركية، ما يمنع الفلسطينيين من تطوير تجارة خارجية مستقلة.

نظام وحدة جمركية موحدة تُربط السوق الفلسطينية بالسوق الإسرائيلية، وتمنع وضع تعريفات تفضيلية مع دول أخرى.

آلية المقاصة، التي تخوّل إسرائيل جباية الضرائب الفلسطينية وتحويلها للسلطة بعد اقتطاعات أحادية الجانب.

> ⚖️ هامش قانوني 1 – المادة 3 من اتفاق باريس: تنص على أن “السلطة الفلسطينية قد تستورد سلعًا من دول أخرى وفق جدول محدد ومتفق عليه”، وهي نافذة قانونية يمكن استغلالها لتوسيع العلاقات التجارية مع الدول العربية والإسلامية خارج الهيمنة الإسرائيلية.

> ⚖️ هامش قانوني 2 – المادة 9 من الاتفاق: تؤكد أنه "يحق للسلطة الفلسطينية إبرام اتفاقات تجارية خاصة مع الدول العربية، على أن لا تتعارض مع أحكام هذا البروتوكول". وهي مادة تسمح نظريًا بتوسيع الشراكات العربية، رغم القيود السياسية المفروضة.

> ⚖️ هامش قانوني 3 – المادة 16: تنص على “إمكانية مراجعة الاتفاق عبر لجان مشتركة وتعديله بالتراضي”. وقد طالبت السلطة الفلسطينية مرارًا بإعادة التفاوض، دون استجابة إسرائيلية، مما يُعد خرقًا صريحًا لبنود الاتفاق ذاته.

ثانيًا: المقاصة كأداة ابتزاز سياسي

آلية المقاصة، التي تعتمد على قيام إسرائيل بجباية الضرائب والرسوم الجمركية على السلع المستوردة للفلسطينيين، تحوّلت إلى أداة ضغط سياسي، حيث تستخدمها حكومات الاحتلال لاقتطاع أموال طائلة شهريًا بحجة مخصصات الأسرى والشهداء، وهو ما يشكل خرقًا لاتفاق باريس من جهة، واعتداءً على السيادة المالية الفلسطينية من جهة أخرى.

لقد باتت المقاصة ورقة مساومة تُستخدم لتطويع الموقف الفلسطيني سياسيًا، عبر تهديد الاستقرار المالي والرواتب والخدمات الأساسية، وهو ما يفرض ضرورة تحويل هذا الملف إلى ساحة نضال سياسي وقانوني، لا مجرد مسألة فنية يتم التفاوض عليها في غرف مغلقة.

ثالثًا: تناقضات الأداء الفلسطيني وغياب المرجعية

على مدار سنوات، افتقر الموقف الفلسطيني إلى خطة متكاملة وواضحة تجاه العلاقة الاقتصادية مع الاحتلال، وطغت الاجتهادات الفردية والمناورات الظرفية على قرارات ذات طابع استراتيجي. ويمكن رصد عدة تناقضات بارزة:

رفض استلام الأموال المنقوصة ثم العودة لاستلامها دون إنجاز سياسي.

الدعوة للانفكاك عن الاحتلال اقتصاديًا، بالتزامن مع التفاوض لتحسين بنود اتفاق باريس بدل إلغائه أو تعليق العمل به.

التلويح بإجراءات ردعية في الخطاب الإعلامي مقابل التراجع في التطبيق العملي، تحت ضغوط خارجية أو داخلية.

هذا التذبذب يعكس بوضوح غياب المرجعية الوطنية المؤسسية التي تضبط القرار وتوجه المواقف، وتُقدّم الصالح الوطني العام على المصالح الفئوية أو الاعتبارات المالية الآنية.

رابعًا: المجلس المركزي – قرارات معلّقة بلا تنفيذ

أصدر المجلس المركزي الفلسطيني، منذ عام 2015 وحتى جلساته الأخيرة، سلسلة قرارات واضحة تنص على:

وقف التنسيق الأمني.

فك الارتباط الاقتصادي مع الاحتلال تدريجيًا.

إعادة النظر في اتفاق باريس الاقتصادي.

لكن هذه القرارات بقيت دون تنفيذ فعلي، ما أفقدها قوتها السياسية، ورسّخ فكرة أن الانفكاك مجرد شعار لا سياسة تنفيذية.

> ⚠️ إن عدم تنفيذ هذه التوصيات يُشكّل انتهاكًا لقرارات أعلى هيئة تشريعية في منظمة التحرير، ويُظهر خللًا في منظومة الحكم والتوازن بين المؤسسات.

خامسًا: رؤية استراتيجية للانفكاك الاقتصادي

تحقيق الانفكاك الاقتصادي لا يكون بقرار فوري وشامل، بل بخطة وطنية تدريجية، تُبنى على 5 محاور:

1. تحرير السوق الفلسطيني من التبعية الجمركية، عبر السعي لتعديل أو تعليق اتفاق باريس، وفرض تعريفات خاصة بقرار وطني.

2. تنويع الشركاء التجاريين، بتفعيل الاتفاقيات الاقتصادية مع الدول العربية (خاصة الأردن ومصر) وتوسيع نطاق الاستيراد عبر منافذ بديلة.

3. بناء قاعدة إنتاج وطنية، تعزز الاكتفاء الذاتي في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية.

4. تدويل ملف المقاصة عبر طرحه أمام المنظمات الدولية بوصفه ملفًا سياديًا تُمارَس فيه قرصنة على موارد دولة تحت الاحتلال.

5. تحصين القرار الوطني ماليًا بإنشاء صندوق سيادي للطوارئ، وتمكين مؤسسات الرقابة المالية، وترشيد الإنفاق العام.

سادسًا: الشعب لا يحتمل المزيد – لا لسياسة الضرائب دون عدالة

في ظل الأزمة المالية، يتجه البعض نحو تحميل الشعب الفلسطيني المزيد من الأعباء الضريبية، وهو ما يُعد خطوة خطيرة في ظل غياب عدالة اقتصادية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتضاؤل قدرة المواطن على الاحتمال.

يجب أن تكون أولوية الحكومة الفلسطينية تخفيف الأعباء، لا توسيع الجباية، وذلك عبر ضبط الهدر المالي، ومكافحة الفساد، وتوجيه الدعم نحو القطاعات الإنتاجية، لا النفقات السيادية.

خاتمة: التحرر الاقتصادي بوابة للسيادة الوطنية

إن الانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال ليس شعارًا بل ضرورة وطنية، تتطلب إرادة سياسية، ورؤية استراتيجية، وقيادة موحدة تضع مصالح الشعب فوق الاعتبارات الآنية. فك الحصار المالي والسياسي يبدأ من تحرير القرار الاقتصادي من قيد التبعية، وتأسيس شراكات عربية وأممية قائمة على الندية والاستقلال.

فالمعركة مع الاحتلال لا تُخاض بالسلاح فقط، بل بامتلاك أدوات السيادة: المال، الإنتاج، والإرادة الوطنية.

تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة