تلفزيون نابلس
كوكا كولا
لماذا التلكؤ عن إعلان غزة منطقة مجاعة؟ بين الحقائق الصادمة وقيود السياسة الدولية
7/26/2025 12:40:00 PM

 لماذا التلكؤ عن إعلان غزة منطقة مجاعة؟ بين الحقائق الصادمة وقيود السياسة الدولية

بقلم: المحامي علي أبو حبلة

رئيس تحرير صحيفة صوت العروبة

 

وسط تزايد مؤشرات الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، يثور سؤال جوهري وتلقائي في أذهان كثيرين: لماذا لم تُعلن غزة حتى الآن منطقة مجاعة، رغم تواتر الشهادات الميدانية، وصور الأطفال الهزلى الذين فارقوا الحياة جوعًا، وتقارير المنظمات الدولية التي تؤكد أن الوضع الغذائي قد تجاوز كل الخطوط الحمراء؟

بعيدًا عن العبارات التجميلية والتقارير "المتحفظة دبلوماسيًا"، فإن التأخر في إعلان المجاعة رسميًا لا يعود لغياب المعايير، بل لأن الإرادة السياسية الدولية تقف عاجزة، أو بالأحرى متواطئة، في لحظة تموت فيها الضمائر قبل أن يموت الأطفال.

معايير المجاعة: القاعدة التي لا تنفذ

يتم الإعلان عن المجاعة في القانون الإنساني الدولي وفق معايير واضحة تضعها الأمم المتحدة ومنظماتها ذات الاختصاص، وعلى رأسها شبكة الإنذار المبكر بالمجاعة (FEWS NET)، ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO)، وبرنامج الغذاء العالمي (WFP)، وتحديدًا ضمن نظام التصنيف المرحلي المتكامل (IPC).

ويشترط ذلك تحقق ثلاثة معايير مجتمعة:

1. أن يعاني ما لا يقل عن 20% من السكان من نقص حاد في الغذاء.

2. أن يتجاوز معدل سوء التغذية الحاد لدى الأطفال نسبة 30%.

3. أن يتجاوز معدل الوفيات حالتين يوميًا لكل 10,000 نسمة.

في شمال غزة، وفي مناطق متعددة من الجنوب، تم توثيق توفر هذه الشروط فعليًا منذ أشهر، لكن لم يصدر الإعلان الأممي المنتظر حتى اللحظة.

أسباب التلكؤ: السياسة تحكم، لا الضمير

1. الخشية من إدانة إسرائيل قانونيًا

إعلان غزة منطقة مجاعة سيؤدي إلى اتهام مباشر لإسرائيل باستخدام التجويع كسلاح حرب، وهي جريمة حرب موصوفة في اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي. كما سيجبر الأطراف الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على مراجعة موقفها السياسي والدبلوماسي تجاه الحصار ومنع دخول المساعدات. هذا الإعلان يفتح الباب لملاحقات دولية، ولذلك يتم تأجيله عمدًا.

2. الضغوط السياسية على منظمات الأمم المتحدة

رغم الاستقلال الفني لتقارير المنظمات الإنسانية، إلا أن اعتماد نتائجها يتطلب تمريرها ضمن أروقة سياسية خاضعة لتوازنات القوة والنفوذ. الفيتو غير المعلن يستخدم داخل أروقة الأمم المتحدة لفرملة التصعيد في لهجة التقارير، ومنع الانتقال من توصيف "كارثة إنسانية" إلى "مجاعة معلنة".

3. تغييب الخبراء ومنع التقييم الميداني المستقل

إسرائيل تفرض قيودًا صارمة على حركة الفرق الأممية في القطاع، ما يعطل عمليات التقييم الميداني اللازمة لإصدار تقارير المجاعة وفق البروتوكولات الدولية. هذا التعتيم الميداني يعمّق العجز المؤسسي، ويؤخر أي تحرك قانوني دولي جدي.

الواقع أقسى من كل التصنيفات

في مارس 2024، أكدت شبكة التصنيف المرحلي المتكامل (IPC) أن أكثر من نصف مليون إنسان في غزة يعيشون في ظروف "كارثة غذائية" (المرحلة الخامسة والأخيرة من التصنيف). وتحدثت تقارير طبية وحقوقية عن وفاة أطفال من الجوع في مستشفيات شمال غزة ورفح، ووجود آلاف الأطفال في حالة هزال حاد دون رعاية.

بل إن تقارير الأونروا تحدثت عن أمهات يتناوبن على إطعام أبنائهن كل 48 ساعة، وبعض العائلات لم تتلقَّ مساعدات غذائية منذ أكثر من شهر، فيما يدخل القطاع أقل من 15% من حاجته الفعلية من المواد الغذائية والطحين.

السلطة الفلسطينية مطالبة بتحرك عاجل ومباشر

بصفتها صاحبة الولاية القانونية والسياسية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإن السلطة الوطنية الفلسطينية تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية لمخاطبة المجتمع الدولي رسميًا ومطالبة الأمم المتحدة بإعلان قطاع غزة منطقة مجاعة.

هذا التحرك يجب أن يكون عاجلًا، ويستند إلى الحق الفلسطيني المعترف به دوليًا في الحماية، استنادًا إلى:

قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19، الذي يعترف بدولة فلسطين كدولة تحت الاحتلال.

المادة 1 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تلزم الأطراف بضمان احترام الاتفاقية "في جميع الأحوال".

تقارير المنظمات الأممية نفسها، التي توثق حجم الكارثة.

الموقف الرسمي الفلسطيني يجب ألا يبقى في دائرة التنديد، بل لا بد من مبادرة سياسية-قانونية واضحة، تدعو صراحة إلى تدخل دولي عاجل، وإعلان المجاعة وفق ما تنص عليه المعايير الدولية.

إعلان المجاعة ليس خيارًا.. بل مسؤولية قانونية وأخلاقية

السكوت الدولي عن إعلان غزة منطقة مجاعة هو تواطؤ موصوف، يُخفي وراءه تقاعسًا أخلاقيًا وجبنًا سياسيًا.

إن الواجب القانوني والأخلاقي للمجتمع الدولي لا يتوقف عند "مراقبة الوضع" وإصدار بيانات القلق، بل يقتضي:

إعلان واضح وصريح بحالة المجاعة في غزة وفق المعايير القانونية ومحاسبة المسؤول عن منع دخول الغذاء والدواء.

فرض ممرات إنسانية آمنة تحت إشراف أممي.

توفير حماية دولية للمدنيين من خطر التجويع والإبادة الجماعية.

الخاتمة: لا عذر في الصمت

كل دقيقة تمر دون إعلان رسمي عن المجاعة، تعني طفلاً آخر يحتضر بصمت، وأمًّا أخرى تفقد قدرتها على إطعام أبنائها، وعالماً يتآمر بالصمت.

ليس المطلوب تضامنًا لفظيًا، بل تحركًا دوليًا حازمًا يحاسب من استخدم الجوع كسلاح، ومن عطل وصول الغذاء والدواء، ومن تآمر على الإنسانية باسم السياسة.

فإذا لم تكن غزة اليوم منطقة مجاعة... فما هي المجاعة إذًا؟

 


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة