مهند ياسين
قدّم مسؤولون في وزارة المالية والحكومة عرضًا شاملاً حول الوضع المالي الراهن، خلال مؤتمر صحفي مفتوح عقدته الوزارة، أول أمس، في قاعة المعهد الفلسطيني للمالية بمدينة البيرة، في ظل ما وصفوه بـ"أزمة مركّبة" تُدار يوميًا في بيئة سياسية واقتصادية خانقة.
وجاء هذا المؤتمر في توقيت بالغ الدقة، وسط تفاقم تداعيات حرب الإبادة المستمرة على غزة، وتوسّع الاجتياحات في الضفة الغربية، واستمرار احتجاز أموال المقاصة، وغياب الدعم الدولي الكافي، ما دفع الحكومة إلى تبنّي سياسات تقشفية صارمة، مع السعي للحفاظ على الحد الأدنى من استقرار الرواتب والخدمات الحيوية.
وشارك في المؤتمر كل من: مجدي الحسن وكيل وزارة المالية، الذي يشغل حالياً إدارة الإدارة العامة للجمارك والمكوس وضريبة القيمة المضافة، ومدير عام هيئة البترول، والمحاسب العام للوزارة محمد ربيع، إلى جانب المتحدث باسم الحكومة ومدير مركز الاتصال الحكومي د. محمد أبو الرب، حيث تناولوا أبرز الملفات المالية الحساسة، من بينها: الخصومات الإسرائيلية غير الشرعية، أزمة الرواتب، الدين العام، تقليص صافي الإقراض، خطط الطاقة والمياه، أزمة السيولة النقدية، ودور القطاع الخاص. واتفق المتحدثون الثلاثة على أن التحدي المالي ليس فنياً بحتًا، بل سياسي بامتياز، مشددين على أن "الاحتلال يسعى لتفريغ أي تحسّن مالي من مضمونه"، وأن ما يجري هو محاولة صريحة لإبقاء السلطة الفلسطينية في حالة نزيف اقتصادي دائم".
مالية تحت الحصار
وشدد الحسن في بداية حديثه على أن ما تمر به السلطة الفلسطينية ليس مجرد أزمة مالية عابرة، بل "إدارة يومية لأزمة مركّبة"، ناتجة عن نظام قمع اقتصادي ممنهج، قائلاً: "الوضع الاقتصادي الفلسطيني مأزوم جدًا، والسلطة تعيش على إدارة يومية للأزمة، وسط حصار مالي ممنهج من قبل الاحتلال".
ورغم التحديات المتراكمة منذ أكتوبر 2023، أشار الحسن إلى تحسن نسبي طرأ على الإيرادات المحلية مع بداية عام 2025، مرجعًا ذلك إلى "توسيع القاعدة الضريبية، وزيادة التفاعل المجتمعي مع الوعي الضريبي".
إصلاحات داخلية يقابلها تفريغ إسرائيلي ممنهج
وكشف الحسن أن الإيرادات المحلية شهدت بداية انتعاش نسبي خلال عام 2025، نتيجة تطبيق حزمة من الإجراءات الإصلاحية الداخلية، أبرزها توسيع القاعدة الضريبية، وتحفيز سلوك الموظف والمواطن، إلى جانب إطلاق قانون الضريبة المضافة الجديد، الذي وصفه بأنه أول قانون فلسطيني مستقل منذ توقيع بروتوكول باريس. وقال: "من بداية السنة أطلقنا قانون الضريبة المضافة، الذي صادق عليه سيادة الرئيس، وهذا أول قانون من نوعه في تاريخ الشعب الفلسطيني. وهو جزء من الانفكاك عن الاحتلال".
ورغم هذا التحسّن النسبي، حذّر الحسن من الإفراط في التفاؤل، مشيرًا إلى أن الاحتلال يسارع إلى "تفريغ أي تحسّن مالي من مضمونه" عبر أدوات متعددة.
خصومات تُفرغ الخزينة
وخصص الحسن جزءًا واسعًا من مداخلته للحديث عن ما وصفه بـ"الخصومات الإسرائيلية غير الشرعية"، والتي اعتبرها جوهر الأزمة المالية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن حكومة الاحتلال قامت بخصم أكثر من 275 مليون شيكل بذريعة الإنفاق على قطاع غزة، و32 مليون شيكل عن رواتب الأسرى، وبدأت مؤخرًا بفرض خصم جديد بقيمة 270 مليون شيكل تحت ذريعة الجمارك، كما أضافت إسرائيل بندًا آخر يتعلق بـ"معالجة مياه الصرف الصحي" بخصم شهري يبلغ 30 مليون شيكل.
وأضاف: "كلما شهدت الإيرادات تحسّنًا، خرج الاحتلال بعذر جديد للخصم. من الكهرباء إلى المياه، إلى الجمارك، إلى المجاري. نحن أمام قرصنة مالية مكتملة الأركان".
واعتبر أن هذه الإجراءات ليست مجرد اقتطاعات مالية، بل تمثل سياسة منهجية تهدف إلى ترسيخ واقع سياسي واقتصادي جديد، من خلال تحكم الاحتلال بالمعابر التجارية، والسيطرة الكاملة على مفاصل الاقتصاد الفلسطيني.
إمدادات البترول مستمرة
وأكد الحسن أن قطاع البترول واجه خلال الحرب الأخيرة تحديات غير مسبوقة، فإنها لم تصل إلى حد الانقطاع الكامل، بفضل إجراءات احترازية مسبقة ومصادر توريد مستقلة، موضحا أن المخزون الاستراتيجي من الغاز بلغ نحو 3000 طن، إضافة إلى استمرار التوريد اليومي بمعدل 500 طن.
كما أشار إلى أن التوريد يتم عبر التعاقد مع شركات إسرائيلية خاصة مثل شركة "باز" للنفط، وليس عبر الحكومة الإسرائيلية مباشرة، الأمر الذي ساهم في ضمان استمرارية الإمداد حتى في أشد الظروف.
وأضاف: "حتى في أوقات الحرب، لم تُقطع الإمدادات، وكان الغاز يصل من المخزون الفلسطيني، بينما الجانب الإسرائيلي كان يطلب منا الغاز بعد أن نضب مخزونه”.
وشدد الحسن على أن أزمة البنزين والسولار التي شهدتها بعض المحطات لم تكن بسبب نقص فعلي في الكميات، بل نتيجة "هلع المواطنين"، الذين أقبلوا بكثافة على الشراء والتخزين خوفًا من انقطاع محتمل.
استقلال تدريجي للبنية التحتية
وتحدث الحسن عن رؤية استراتيجية تتبناها الحكومة الفلسطينية في ملفي الطاقة والمياه، تهدف إلى تحقيق استقلال تدريجي وتوسيع البنية التحتية الوطنية، رغم التحديات المفروضة من الاحتلال. وتركّز هذه الرؤية على تحويل كافة نقاط الربط الكهربائي إلى شركة النقل الوطنية (PETL)، وإنشاء محطة توليد كهرباء جديدة في محافظة جنين، إلى جانب خطة طموحة لتغطية المخيمات الفلسطينية بالكامل بالطاقة الشمسية خلال ثلاث إلى أربع سنوات.
كما أشار إلى مشروع إطلاق شركة حكومية لإدارة المياه، يُتوقع أن تبدأ عملها جزئيًا بحلول عام 2026، كخطوة أولى في بناء سيادة وطنية على قطاع المياه.
وأكد الحسن أن هذه المبادرات لا تأتي في سياق تحسين الخدمات فحسب، بل كجزء من مسار سياسي واقتصادي نحو التحرر من الهيمنة الإسرائيلية، موضحًا: "نحن نهدف للسيطرة على الكهرباء والمياه بشكل سيادي، رغم المعيقات الإسرائيلية. نريد استقلالًا تدريجيًا في البنية التحتية".
رواتب رغم الاختناق
فيما يتعلق برواتب الموظفين، أكد الحسن أن الحكومة لا تزال ملتزمة بصرف 70% من الراتب، على ألا يقل المبلغ عن 3500 شيكل، رغم الظروف المالية الصعبة والاختناق المالي الناتج عن تراجع الإيرادات واحتجاز أموال المقاصة، موضحاً أن فاتورة الرواتب تُموَّل جزئيًا من الإيرادات المحلية المدعومة، إلى جانب مساهمات خارجية محدودة، وأن وزارة المالية تضع عدة سيناريوهات شهرية للصرف بناءً على تدفق أموال المقاصة والتحويلات المحتملة.
وقال: ما زلنا نصر على 3500 شيكل كحد أدنى. صرفنا 35% قبل العيد، وأكملناها نهاية الشهر. هذا إنجاز في ظل هذا الاختناق.
وأشار إلى أن وزارة المالية تبذل جهودها من داخل الأزمة وليس من خارجها، مؤكدًا أن موظفي الوزارة أنفسهم "من أقل موظفي الحكومة دخلًا"، مضيفًا أن الوزارة ملتزمة بسياسة تقشف صارمة تشمل عدم شراء سيارات جديدة أو تحميل ميزانية الدولة أعباء إضافية، وذلك حفاظًا على الموارد المحدودة في ظل الأزمة المتفاقمة.
هيكلة لصافي الإقراض
وأوضح الحسن أن ملف صافي الإقراض، الذي ظلّ يُدار بتراكمات سلبية لأكثر من عشر سنوات، يشهد حاليًا عملية إعادة هيكلة فعلية تهدف إلى تقليص الأعباء المالية وتقييد قدرة الاحتلال على فرض خصومات جديدة تحت هذا البند، مشيراً إلى أن الأشهر الأولى من عام 2025 شهدت انخفاضًا تدريجيًا في قيمة صافي الإقراض، نتيجة إجراءات تنظيمية وتفاهمات مالية مع البلديات وشركات توزيع الكهرباء.
وبيّن أن وزارة المالية توصّلت إلى اتفاقات مع عدد من الهيئات المحلية لتسوية المديونيات من خلال "دفعات بشيكات"، حيث تُخصّص الأموال مباشرة بناءً على احتياجات كل هيئة محلية، بما يمنع الاحتلال من استخدام هذا الملف كذريعة لخصومات جماعية أو عشوائية.
وأضاف: "نجحنا في خفض صافي الإقراض عبر ترتيب المدفوعات، لكن الطرف الإسرائيلي سيبحث دائمًا عن خصم جديد، ولن يتوقف".
لا تواصل مع سموتريتش
وكشف الحسن أن وزارة المالية لا تتواصل مع وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي وصفه بـ"الطرف المتطرف والمرفوض سياسيًا": "نحن لا نتعامل معه. نرفضه رسميًا، وهو مصنّف لدينا كمجرم. نمارس التواصل عبر القنوات التقنية والمدنية فقط، مع إدارات مالية إسرائيلية دون اعتراف سياسي".
وعن بروتوكول باريس، قال الحسن:
"الاتفاقية تعرقل استقلالنا الاقتصادي. لم تُعدّل منذ توقيعها، ولكننا نحاول عبر مشاريع مثل "البوندِد" والمناطق الحرة أن نخرج تدريجيًا من قبضة الاحتلال".
عدالة ممكنة لا مثالية
واعترف الحسن بصعوبة تحقيق العدالة بين القطاعات في ظل أزمة مالية حادة: "العدالة مطلوبة، لكن المساواة الحالية هي الخيار الأسلم حتى لا ندخل في صراعات نقابية داخلية. كل القطاعات تطالب، لكننا نُدار ضمن إمكانيات محدودة"، معتبراً أن الرواتب في قطاع الصحة، رغم أهميته، لا يمكن أن تُلبّى مطالبه كافة في الوقت الراهن دون انهيار التوازن المالي للسلطة.
صمود اقتصادي رغم الحصار
وختم الحسن حديثه بالتأكيد على أن الاقتصاد الفلسطيني، برغم القمع والخصومات، لا يزال صامدًا بفضل تلاحم مكوناته:
"المواطن هو أساس هذه الدولة. وما زال شعبنا يودع في البنوك، يبني، ويستثمر. من يبني محطة وقود اليوم هو مقاوم وطني. من يفتح محلًا هو ركيزة للصمود"، مشدداً على أن وزارة المالية، رغم ضعف الأدوات، "تدير أزمة سيادية في ظروف لا تشبه إلا الحصار السياسي والاقتصادي الشامل".
ضبط التملّك لا توسيعه
في رده على الجدل المرتبط بطلبات تملّك العقارات، أوضح د.محمد أبو الرب، مدير مركز الاتصال الحكومي، أن الحكومة لا تسعى لتوسيع التملّك بل بالعكس لتقييده، عبر تدقيق أمني مشدد وإجراءات فنية جديدة، وقال "هذا الإجراء ليس تشجيعًا للتملك، بل ضبط وتقييد له. بعض الطلبات تخضع لمراجعة أمنية دقيقة، كمن يطلب شراء شقة ثانية وهو يملك أصلاً عقاراً" ، مضيفاً أن هناك تعليمات جديدة خاصة بالفلسطينيين غير الحاملين لهوية فلسطينية، والمقيمين في الخارج، مؤكدًا أن التوجه العام هو نحو "الرقابة لا التيسير".
تهريب الذهب يفاقم أزمة الشيكل
ولفت أبو الرب إلى أن أحد أسباب تفاقم أزمة السيولة النقدية بالشيكل هو تهريب الذهب من الخارج، وقدّره بما يلي: "نحن نتحدث عن تهريب سنوي يتراوح بين مليار إلى مليار ونصف شيكل، لا يدرج ضمن فاتورة المقاصة، ولا تستفيد منه المالية العامة".
وأشار إلى أن أهالي الداخل الفلسطيني (أراضي 48) يشترون الذهب المُهرّب نقدًا، ما يفاقم أزمة النقد المحلي.
تحوّل رقمي تدريجي وآمن
ودافع أبو الرب عن خطوات الحكومة في التحوّل الرقمي، مشددًا على أنه لا يُفرض على أحد "في يوم وليلة"، بل يُطبّق تدريجيًا حتى نهاية 2025، قائلاً "التحول الرقمي لن يضر أحدًا. بل هو ضرورة وطنية لحماية المال العام وضبط عمليات الشراء، خاصة من الداخل الفلسطيني"، موضحاً أن 70% من البالغين في فلسطين يملكون بطاقات دفع إلكتروني، ما يُعد قاعدة جاهزة للبناء عليها.
تنمية مرهونة بتعطيل الاحتلال
وقدّم المتحدث باسم الحكومة عرضًا تفصيليًا لخطة "البرنامج الوطني للتنمية والتطوير"، الذي أعدّته الحكومة الفلسطينية كمحاولة لتحريك عجلة التنمية في ظل الأزمة المالية والقيود السياسية المفروضة. تتضمن الخطة سبعة محاور استراتيجية، تشمل دعم الحكم المحلي وهيئات البلديات، تسريع التحول الرقمي وتوسيع استخدام المدفوعات الإلكترونية، توطين الخدمات الطبية، دعم التعليم التنموي، إصلاح قطاعات الطاقة والمياه، تحديث التشريعات، بالإضافة إلى مشاريع إيواء خاصة بالمخيمات المتضررة.
وأوضح أبو الرب أن الحكومة نجحت في تجنيد 911 مليون دولار لصالح تنفيذ هذا البرنامج عبر شراكات دولية ومؤسساتية متعددة، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي يواصل عرقلة التنفيذ، خاصة في المناطق الشمالية من الضفة الغربية.
وقال بهذا الشأن: "تم تجنيد 911 مليون دولار لصالح هذا البرنامج، لكن الاحتلال يعوق التنفيذ في بعض المناطق، خاصة بالشمال".
مياهٌ مسروقة.. وطاقة محاصَرة
واستعرض أبو الرب الجهود الحكومية ضمن خطة سلطة الطاقة والمياه للفترة 2025–2030، مشيرًا إلى أن هذه الخطة تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الشبكة الإسرائيلية، في إطار رؤية تدريجية نحو السيادة على البنية التحتية، مؤكداً أن الهدف المركزي هو الوصول إلى 30% من الطاقة المنتجة محليًا بحلول عام 2030، عبر توسيع مشاريع الطاقة الشمسية وتحديدًا في المخيمات الفلسطينية، بما يقلل الضغط على الشبكة الإسرائيلية ويعزز أمن الطاقة الوطني.
كما أشار إلى تقدم في مشاريع الربط الكهربائي والخطوط الناقلة، خاصة في شمال ووسط الضفة الغربية، إلى جانب جهود حكومية حثيثة لمكافحة سرقة المياه، والتي تُقدّر بـ30% من إجمالي كميات المياه في محافظة الخليل وحدها.
وقال: "بعض خطوط المياه تُحفر ليلاً، وتُعاد سرقتها وبيعها. هذا ليس مجرد سوء إدارة، بل جريمة منظمة".
وشدّد على أن الحكومة تتابع هذا الملف بتنسيق بين الأجهزة المحلية والأمنية، في محاولة لوقف النزيف المائي والمالي الذي يضرّ بالخدمات والبنية التحتية.
صافي الإقراض: نزيف المقاصة الصامت
وبيّن أبو الرب أن الحكومة تعمل على معالجة صافي الإقراض عبر تسوية العلاقة مع الهيئات المحلية، بعد أن تبين أن أكثر من 230 نقطة ربط كهربائي تُحوّل مباشرة إلى الجانب الإسرائيلي دون فواتير رسمية، وقال: "هذا يعني اقتطاعات مباشرة من المقاصة دون ضبط، والحكومة تدفع الثمن. خطة الإصلاح تسعى لدمج هذه النقاط ضمن الشبكة الوطنية وضمان الجباية المنظمة".
إغاثة مرنة تحت النار
وأكد أبو الرب أن الحكومة، رغم ضآلة الموارد وشحّ الإمكانات، واصلت تقديم الدعم للمناطق المنكوبة جرّاء الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، لا سيما في محافظتي جنين وطولكرم، موضحاً أن الحكومة صرفت 48 مليون شيكل من الموازنة العامة لصالح جهود الإغاثة الطارئة، إلى جانب توفير مساعدات بدل إيجار لنحو 5000 أسرة عبر منصات إلكترونية مثل PayPal، في خطوة تعكس توجهًا نحو الشفافية والتقليل من البيروقراطية.
كما أشار إلى تجنيد 5 ملايين دولار لصالح الإيواء المؤقت، ضمن خطة طوارئ تشمل توفير الاحتياجات الأساسية وإعادة تأهيل البنية التحتية. وقال: "نتحدث عن أكثر من 50 اجتياحًا منذ 7 أكتوبر. بعد كل اجتياح تبدأ عملية إصلاح شاملة، من الشوارع إلى الكهرباء إلى خطوط المياه".
ولفت إلى أن الاحتلال أبلغ بعض الجهات الميدانية بأنه لن يسمح بإعادة بناء المنازل المدمّرة، في خطوة تُعقّد جهود الإيواء الدائم، وتؤشر إلى سياسة ممنهجة تهدف إلى ترسيخ واقع تهجيري جديد في شمال الضفة الغربية.
الرواتب معلّقة على المقاصة
وأوضح مدير مركز الاتصال الحكومي أن وزارة المالية، رغم تحفظها الإعلامي في كثير من المحطات، تتعامل مع أزمة مالية مركبة تتطلب إدارة دقيقة وحذرة، في ظل تراجع الإيرادات وتواصل الخصومات الإسرائيلية، مؤكداً أن الإيرادات المحلية غير كافية لتغطية نسبة 70% من الرواتب، وأن الحكومة تحتاج شهريًا إلى ما لا يقل عن 920 مليون شيكل لضمان صرف جزء من رواتب الموظفين العموميين.
وأشار أبو الرب إلى أن غياب تحويل أموال المقاصة في الوقت المحدد، إضافة إلى أزمة السيولة الخانقة، يعقّدان أي قدرة على تحديد مواعيد ثابتة لصرف الرواتب أو نسب الصرف مسبقًا، وقال "كنا نملك سيناريوهين: إما صرف 70% أو 35%. المقاصة لم تصل، فاعتمدنا السيناريو الأقل. الإعلان تأخر حتى الدقيقة الأخيرة لعدم توفر المعلومة المؤكدة."
ولفت إلى أن التأخير في الإعلان عن صرف الرواتب لا يعكس ترددًا حكوميًا، بل يُعبّر عن تعقيد المشهد المالي، حيث تُبنى القرارات بناءً على وفرة السيولة المتوفرة لحظة بلحظة.
دعم عربي دون التطلعات
وفيما يتعلق بشبكة الأمان المالية التي وعدت بها الدول العربية، أوضح أبو الرب: "السعودية واصلت دعمها خلال الربع الأول من 2025، والجزائر والعراق قدّما دعمًا محدودًا، لكن الدعم ما زال غير كافٍ".
وأشار إلى أن العلاقات مع الدول العربية والدولية "محكومة بالمصالح"، وليس بالنيات فقط، وأن الحملة الدبلوماسية الفلسطينية تواصل الضغط من خلال إرسال تقارير دورية للسفارات والبرلمانات.
الإنصاف رغم الضغوط
وفي نقاشه حول الإنصاف بين القطاعات، دعا أبو الرب إلى اعتماد العدالة بدلًا من المساواة الشكلية، مستدركًا أن الحكومة الحالية اختارت رفع الحد الأدنى إلى 3500 شيكل لضمان الحد الأدنى من العيش الكريم: "نحن لا نستطيع دفع الفروقات حاليًا، لكن المساواة لا تعني العدالة. رفع الحد الأدنى هو شكل من أشكال العدالة الاجتماعية للفئات الأقل دخلًا".
وشدد أبو الرب في ختام حديثه على أهمية استمرار القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والعمل الإداري رغم الأزمة، محذرًا من أن أي تعطيل يُهدد استقرار الدولة.
رواتب تحت سقف الإمكانات
وفي حديثه، أكد محمد ربيع، المحاسب العام في وزارة المالية، أن الحكومة تبذل أقصى ما يمكن لضمان صرف الرواتب، ولكنها وصلت إلى سقف الإمكانات، قائلاً "خيار ٧٠٪ يُستخدم عندما نكون قد استنفدنا كل الطرق: التمويلات البنكية، الدعم الخارجي، والإيرادات المحلية... وحتى هذه تغطي فقط 35% أحيانًا".
وأوضح أن الحد الأدنى المعتمد حاليًا (3500 شيكل) هو نتيجة لحسابات دقيقة بين الاستحقاق والقدرة الفعلية على الدفع.
تكدّس الشيكات يخنق الإيرادات
وتحدث ربيع عن أزمة خانقة في الإيرادات المحلية، خاصة نتيجة تكدّس الشيكات وامتناع البنوك عن قبولها: "الإيرادات المحلية لم تعد تدخل كالمعتاد، لأن الشيكات لم تعد تُقبل، وهذا أدى لتراجع حاد في التدفقات النقدية"، مشيراً إلى أن هذا التراجع أثر مباشرة على قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها للقطاعين العام والخاص.
دين متراكم واستقرار مهدد
وكشف المحاسب العام لوزارة المالية أن إجمالي الدين العام الفلسطيني بلغ 13 مليار دولار، موزعًا بين ديون للبنوك المحلية تصل إلى 3 مليارات دولار، ومستحقات متراكمة للقطاع الخاص، ومتأخرات لرواتب الموظفين، إضافة إلى التزامات مالية تجاه هيئة التقاعد.
ورغم ضخامة هذه الأرقام، شدّد ربيع على أن الحكومة الفلسطينية نجحت في الحفاظ على استقرار نسبي في مستوى الدين العام، معتبرًا أن هذا الاستقرار يُعدّ إنجازًا في ظل الحصار المالي وتراجع الدعم الخارجي واحتجاز أموال المقاصة. وقال: "برغم كل هذه الأزمات، حافظنا على استقرار نسبي في مستوى الدين. لم نقفز قفزة كارثية كما حدث في دول أخرى".
وأوضح أن الحكومة تواجه فجوة تمويلية شهرية تتراوح بين 1.6 إلى 1.7 مليار شيكل، وتسعى لتغطيتها عبر تمويلات مؤقتة من البنوك أو مساهمات مانحين دوليين، وذلك في محاولة لتأمين النفقات التشغيلية الحيوية، وفي مقدمتها الرواتب والخدمات الصحية والتعليمية.
الصحة أولوية رغم العجز
وأوضح ربيع أن الحكومة ما تزال تغطي 70% من خدمات المستشفيات، وأنها ملتزمة بدفع مستحقات الموردين: "حتى في هذا الظرف، نُصر على دفع دفعات للمستشفيات وموردي الأدوية. خلال شهر 6 لعام 2024، زدنا المخصصات للقطاع الصحي".
وعن أزمة عدم توريد الأدوية من بعض الشركات، وجّه رسالة لوزارة الصحة بأن تتابع الحالات وتُحمّل المسؤولية لمن لا يلتزم بالعطاءات الحكومية.
تسويات جزئية ومطالب متراكمة
وقدّر ربيع مديونية الحكومة للقطاع الخاص بـ 1.6 مليار دولار، معظمها لموردي الأدوية والمستشفيات، وقال: "نُجري مراجعة شهرية ويومية لخطط الدفع حسب السيولة. نحاول ضمان استمرارية التوريد، ولكن ندفع حسب ما يتوفر".
وأوضح أن هناك تسويات تُعتمد شهريًا، وبعض الدفعات تُصرف جزئيًا (نصف دفعة)، في محاولة لتفادي الانقطاع الكامل.
تقشف حاد بلا مساس بالخدمات
وكشف ربيع أن الحكومة اعتمدت خطة تقشف فعلية منذ توليها المسؤولية، في محاولة لضبط الإنفاق العام وتوجيه الموارد المحدودة نحو القطاعات الحيوية، موضحاً أن هذه الخطة شملت سلسلة من الإجراءات الصارمة، أبرزها تجميد مهمات السفرحتى تلك الممولة من الخارج، ووقف شراء المركبات والمباني الحكومية، إضافة إلى دمج بعض الهيئات والمؤسسات لتقليص النفقات التشغيلية.
كما أشار إلى أن الحكومة قررت تأجيل صرف العلاوات والترقيات في بعض القطاعات، وتأطيرها بقرارات استثنائية مؤقتة عند الضرورة، إلى جانب توجيه الممولين لنقل التدريبات إلى الداخل الفلسطيني بدلاً من عقدها في الخارج. وقال: "حتى مهمات السفر الممولة خارجيًا صرنا نرفضها ونطلب تحويلها إلى الداخل. نرفض أي نفقة لا تؤثر على جودة الخدمات".
وأكد أن هدف هذه الخطة ليس فقط خفض الإنفاق، بل تحقيق الانضباط المالي دون المساس بجودة الخدمات الأساسية المقدّمة للمواطنين، خاصة في قطاعات الصحة والتعليم والطاقة.
مستحقات التقاعد قيد الصرف
وأشار ربيع إلى أن الحكومة ما تزال ملتزمة بصرف مكافآت نهاية الخدمة للموظفين المتقاعدين، رغم الأزمة: "نصرف المستحقات على دفعات، حسب توصيات لجنة مختصة يرأسها مدير عام الرواتب، وهي تدرس كل حالة على حدة".
وأوضح أن حجم المبلغ المتراكم لهذه المستحقات يُقدّر بـ20–30 مليون شيكل فقط، وأن صرفها لا يزال مستمرًا وفق الجداول الزمنية.
الإنهاك موزّع بعدالة
وأكد ربيع أن إدارة الأزمة تقوم على "توزيع الإنهاك" بعدالة بين الموظفين، والموردين، والمتقاعدين، لا على تحميل جهة واحدة العبء: "كلنا موظفون. والمطلوب الآن ليس زيادة الطلبات، بل الحد منها. نحن أمام أزمة مركبة تستهدف شرياننا المالي والاقتصادي".
واعتبر ربيع في نهاية حديثه أن الاحتلال يسعى لتجذير الأزمة عبر تقويض قدرة الحكومة على دفع الرواتب، وإبقاء السلطة في حالة نزيف مالي دائم.
نقلا عن "القدس" دوت كوم
تصميم وتطوير: ماسترويب 2016 |