
بقلم: المحامي علي أبو حبلة
في لحظة سياسية حساسة تشهدها المنطقة بعد إقرار مجلس الأمن الدولي القرار 2803 المتعلق بخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار في غزة ودفع المسار السياسي، سارعت حكومة الاحتلال الإسرائيلي إلى المصادقة رسميًا على إقامة المنطقة الصناعية الاستيطانية الكبرى "بوستان حيفتس" شمال الضفة الغربية.
هذه الخطوة لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق السياسي والدبلوماسي الراهن، ولا بمعزل عن تصريحات ترامب ذاته الذي تعهّد مؤخرًا بأنه "لن يسمح لإسرائيل بضمّ الضفة الغربية".
إلا أن قرار المصادقة، بهذا التوقيت تحديدًا، يعكس تحديًا مباشرًا وواضحًا للرئيس الأميركي، ويكشف في الوقت ذاته المخاوف العميقة من أن القرار 2803 جاء في معظمه لخدمة المصالح الإسرائيلية، وخصوصًا تكريس الفصل الجغرافي والسياسي بين غزة والضفة الغربية.
أولاً: التوقيت السياسي ليس مصادفة — مشروع استيطاني يتحدى واشنطن قبل أن يتحدى الفلسطينيين
يأتي الإعلان عن المصادقة على المشروع بعد أيام فقط من موافقة مجلس الأمن على المبادرة الأميركية بوقف إطلاق النار، وهو ما يطرح أسئلة ملحّة حول:
1. لماذا سارعت حكومة الاحتلال للمصادقة على المشروع الآن؟
2. وهل أرادت إسرائيل إرسال رسالة غير معلنة لواشنطن مفادها أنها تملك مشروعًا خاصًا بها يتجاوز أي عملية سياسية—even لو جاءت من البيت الأبيض؟
من الواضح أن تل أبيب تعتبر أن قرار 2803 — رغم كونه مبادرة أميركية — يمنحها هوامش واسعة للتحرك في الضفة الغربية دون قيود حقيقية، خصوصًا في ظل تركيز القرار على غزة ومسار وقف إطلاق النار، مع غياب أي مرجعية صريحة لوقف التوسع الاستيطاني أو حماية الأراضي الفلسطينية في الضفة.
ثانياً: بين خطاب ترامب ووقائع الأرض — الفجوة تتسع
في الأسابيع الأخيرة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكثر من مرة أنه "لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية"، في محاولة لتقديم رؤيته كبديل عن نهج إدارة بايدن.
لكن إسرائيل تردّ على ترامب بأنها مستمرة في الضمّ الفعلي عبر:
فرض مشاريع صناعية واستيطانية ضخمة؛
ربط المستوطنات ببنية اقتصادية مستقلة؛
تشبيك المستوطنات مع الاقتصاد الإسرائيلي المركزي؛
ومحاصرة المدن الفلسطينية وقطع أوصالها.
ومصادقة الحكومة على "بوستان حيفتس" هي إعلان عملي أن تل أبيب لا تنتظر موقف واشنطن، ولا ترى في تصريحات ترامب عنصرًا مُلزِمًا، بل تعتبر أن اللحظة تمرّ لصالحها وأن عليها استغلالها لتثبيت وقائع نهائية قبل أي تغير سياسي في الولايات المتحدة.
ثالثاً: القرار 2803 — هل يمهّد لفصل غزة عن الضفة؟
إن واحدة من أهم المخاوف الفلسطينية الحقيقية أن القرار 2803، رغم أنه قدّم باعتباره خطة لإنهاء الحرب، لم يتضمن أي ضمانات واضحة لعدم فصل غزة عن الضفة في المسار السياسي المقبل.
وبالنظر إلى سياق التوسع الاستيطاني في الضفة، والمشاريع الكبرى مثل "بوستان حيفتس"، يصبح السؤال مشروعًا:
هل وفر القرار 2803 عمليًا غطاءً دبلوماسيًا لإسرائيل كي تستفرد بالضفة الغربية؟
المؤشرات على ذلك واضحة:
1. التركيز الكامل للقرار على غزة دون الإشارة لوقف الاستيطان.
2. غياب أي إلزام لإسرائيل بصيغة سياسية تُعيد التأكيد على وحدة الأراضي الفلسطينية.
3. تجاهل الضفة الغربية رغم أنها تشهد منذ أشهر أوسع عملية اجتياح منذ 2002.
4. ارتفاع وتيرة المصادقات الاستيطانية فور صدور القرار.
بهذا المعنى، يبدو أن القرار 2803 يخدم عمليًا — ولو ضمنيًا — رؤية إسرائيل بفصل غزة عن الضفة وإدارة كل منهما بمسار مستقل، ما يسهل على حكومة نتنياهو واليمين المتطرف استكمال مشروع الضمّ في الضفة دون ضغوط دولية.
رابعاً: «بوستان حيفتس» — مشروع ضخم يلتهم الأرض ويمحو أي أفق لدولة فلسطينية
المنطقة الصناعية الاستيطانية ليست مجرد مجموعة مصانع، بل:
789 دونمًا من الأراضي الفلسطينية المصادرة؛
403 دونمات للصناعات الكيماوية والمبيدات والبلاستيك؛
شبكة طرق ومحطات وقود ومباني عامة؛
عشرات الوحدات الصناعية المخصصة للتسويق الفوري للمستوطنين؛
صلة مباشرة مع "نتانيا" ومنطقة تل أبيب الكبرى؛
وارتباط عضوي بكتل "عيناف" و"أفني حيفتس" و"بوابة إفرايم".
هذا ليس مشروعًا اقتصاديًا؛ هذا مخطط سيادي كامل يهدف إلى:
خلق واقع ديمغرافي جديد؛
توسيع الوجود اليهودي؛
عزل طولكرم وسلفيت ونابلس؛
وتقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات تواصل جغرافي.
بل إن طبيعة الصناعات المقترحة — كما أكد خبراء فلسطينيون — تنطوي على مخاطر بيئية مسرطنة تجعل التجمعات الفلسطينية المجاورة في حالة تهجير بيئي تدريجي.
خامساً: البعد القانوني — استيطان صناعي = ضمّ فعلي وجريمة حرب
القانون الدولي واضح:
اتفاقيات جنيف الرابعة تحظر نقل السكان وبناء منشآت لصالح قوة الاحتلال.
قرار مجلس الأمن 2334 يعتبر المستوطنات "انتهاكًا فاضحًا للقانون الدولي".
نظام روما يجرّم إنشاء البنى الاستيطانية بوصفها "إحلالًا استعماريًا".
والمشروع الجديد يمثل:
1. ضمًا اقتصاديًا مقنّعًا
إسرائيل تُرفق الاقتصاد بالبنية الاستيطانية لإنتاج سيادة أمر واقع.
2. تغييرًا قسريًا لطابع الأرض المحتلة
بموجب القانون الدولي، أي تغيير في طابع الأراضي المحتلة يُعد جريمة.
3. توسعًا يهدف لإلغاء الحق الفلسطيني في تقرير المصير
وهو أحد أهم حقوق الإنسان الجماعية المكفولة دوليًا.
سادساً: الدلالات الاستراتيجية — إسرائيل تستثمر اللحظة الذهبية
ما يجري يؤكد أن:
إسرائيل تُسرّع الاستيطان لأنها تدرك أن العالم منشغل.
حكومة نتنياهو تراهن على التغيرات الأميركية المقبلة.
القرار 2803 أعطى ضوءًا أخضر غير مباشر للانفصال السياسي بين غزة والضفة.
وأن المشروع الصناعي هو حلقة أساسية في خطة الضمّ الكبرى.
مشروع بوستان حيفتس رسالة سياسية خطيرة — والردّ مطلوب فلسطينياً ودولياً
مصادقة إسرائيل على "بوستان حيفتس" بعد قرار مجلس الأمن 2803، ورغم تصريحات ترامب بعدم السماح بالضم، هي رسالة مفادها أن إسرائيل تسير نحو ضمّ الضفة الغربية بشكل تدريجي ومنهجي دون اكتراث لأي التزامات أو ضغوط دولية.
إنها خطوة تؤكد:
أن الاستيطان لم يعد انتهاكاً عابراً، بل مشروع سيادي؛
وأن فصل غزة عن الضفة بات هدفًا مُقتربًا في الاستراتيجية الإسرائيلية؛
وأن الدولة الفلسطينية، وفق هذا المسار، تواجه أخطر لحظة وجودية منذ 1967.
أخبار فلسطينية
أخبار الاقتصاد
أخبار فلسطينية
أخبار فلسطينية
|
تصميم وتطوير: ماسترويب 2016 |