
كتب جهاد حرب
"من زمان فحل"، لم ألتقي صديقي المحاور الصريح والمناور في المغزى والعميق بالمعنى والموارب الذي لا تمسك عليه خطأ في حواره الممتع. سألته عن الغياب، قال لي أنه ترك عيش عمق المدينة وزحمتها، ونقاشات المقاهي وأروقة بنايات العاصمة ومكاتب سياسييها الوافرة، ومثقفيها أصحاب الجمل المنمقة وافروا النقاش والكتابة ودمغ الصفات والتسميات. قلت في نفسي إذا استرسل في حديثه ستصيبنا مصيبة مزدوجة من السياسيين والمثقفين؛ فأسرعت للاستفسار عن عمله قلت هذا سؤال عملي لا تمنحه المواربة في الإجابة وإطلاق العنان لسانه السليط.
أجاب صديقي العائد من الغياب أنه يرعى الخراف، قلت إن لسانك قد خانك "يطلق عليه رعي الغنم".... ضحك صديقي بصوت عالٍ حتى خجلت من نفسي أمام نظرات الجالسين في المقهى... فسررت له أننا أخذنا ذلك في المدرسة ومكتوبه في المناهج التعليمية ولم أرَ يوماً أن أحداً أطلق على نفسه بأنه يرعى أو راعي الخراف... ضحك بخبث... أدركت أنني أمام مصيبة أخرى؛ فأسرعت لثنيه بسؤال عن اختياره رعي الخراف بدلا عن رعي الغنم.
تنهد قليلاً .. وقال إنّ الرعي هو الملاحظة والحفظ وهي مهام الراعي القائم بالاهتمام والرعاية، أي رعى الأمر راقب مصيره ونظر في عواقبه؛ وهي بالمعاني السياسية صاحب التدبر وأخذ القرار نيابة عن الآخرين لمصلحتهم والحفاظ عليهم... قلت في نفسي لو أني لم أسأله للدخول في معركة جديدة من خفي الكلام وبواطن المعاني والدلالات الرمزية... قلت لأغافله بسؤال لعلني أنجوا من هرطقته لاختياره الخراف وليس الغنم.
فَأَنْقَضَ على الإجابة – كأنه نال مراده أو بمعنى أدق أوصلني إلى مبتغاة- الغنم يا صديقي مشاكسة وتكثر من الحركة ولا تترك حرة؛ فالحرية لديها مطلقة، كالنخب المفكرة من -قلت وقعنا في الشر من جديد- وأضاف بسرعة تحتاج إلى انتباه أكثر لتأثيرها على الخراف وتأطيرها وقيادتها لها... أما الخراف يا صديقي تنصاع للأوامر والتدابير التي أضعها أو أطلقها دون عناء ولا حاجة للركض لثنيها أو للوقوف أمامها فرمي حجر يحدد المسار لها ولا تحيد عنه هنا أو هناك خلف رغباتها؛ فهي تخاف غضبي، ومطواعة لا تثور على قراراتي، ولا تعصي أوامري بتحكمي بحركتها وأكلها.
وأردف قائلاً هذا ليس وحده ما دفعني لرعي الخراف؛ فالخلاء يمنحني مزيداً من التأمل، والفضاء الرحب في الجبال يمنحني الابتعاد عن ثرثرة النخب السياسية والثقافية في المدينة المليئة بالضوضاء والصراخ، والوحدة تزيد قناعتي بأنّ الّهم من الجماعية وليس من الحياة.
وأطلق العنان لصوته بقوله "إنني الراعي صاحب القرار دون مشاورة، أطلق أوامري دون خوف من تمرد الخراف أو احتجاجهم أو عصيان بعضهم، فحجري صائب وسكيني حاضر" ... نهضتُ مسرعاً لا أعلم خوفاً أم رفضاً لكنني قلت له سررت لرؤيتك ولم أدرك رؤيتك.
أخبار فلسطينية
أخبار الاقتصاد
أخبار فلسطينية
أخبار فلسطينية
|
تصميم وتطوير: ماسترويب 2016 |