
إعداد: المحامي علي أبو حبلة
رئيس تحرير صحيفة صوت العروبة – باحث في القانون الدولي والعلاقات السياسية
في لحظة سياسية دقيقة...
تأتي استقالة وزير المالية في حكومة الدكتور محمد مصطفى لتفتح الباب واسعاً أمام التساؤلات حول مستقبل الحكومة الفلسطينية، وإمكانية أن تكون هذه الاستقالة مقدّمة لإعادة تشكيل المشهد السياسي والإداري في ظل أوضاع استثنائية تمرّ بها الساحة الفلسطينية.
فالحدث لا يمكن قراءته كإجراء إداري عابر، بل كمؤشر على تحولات داخلية وضغوط خارجية تدفع باتجاه مراجعة عميقة في هيكل السلطة، وربما تمهيداً لولادة حكومة جديدة ذات صلاحيات أوسع لمواجهة المرحلة المقبلة بتحدياتها السياسية والاقتصادية.
أزمة مالية وسياسية تحت المجهر
وزارة المالية في أي دولة هي المرآة التي تعكس استقرارها السياسي وقدرتها على إدارة شؤونها الداخلية. وفي الحالة الفلسطينية، يتضاعف ثقلها مع استمرار أزمات المقاصة وغياب الموارد المستقلة.
الاستقالة، في هذا السياق، تعبّر عن اختلال في التوازن المالي والإداري للحكومة، وعن ضغوط متراكمة ناجمة عن نقص التمويل، وتراجع المساعدات الدولية، والتحديات اليومية في تلبية احتياجات المواطنين ودفع رواتب القطاع العام.
ويرى مراقبون أن هذه الخطوة قد تعكس تبايناً في الرؤى داخل الحكومة بشأن إدارة الملفات المالية والإصلاح الإداري، وربما اعتراضاً ضمنياً على النهج القائم في التعامل مع الضغوط الاقتصادية والاشتراطات الدولية.
البعد القانوني والدستوري
من منظور القانون الأساسي الفلسطيني، يُمنح الرئيس صلاحية قبول استقالات الوزراء أو تكليف رئيس الحكومة بإجراء تعديلات أو تشكيل حكومة جديدة.
لكن مع غياب المجلس التشريعي المنتخب، فإن أي تعديل حكومي يجري حالياً ضمن نطاق “التفويض الرئاسي” دون رقابة برلمانية، ما يفرض ضرورة التوافق السياسي الواسع لضمان شرعية أي حكومة جديدة أو موسّعة الصلاحيات.
إن تشكيل حكومة جديدة – إن حدث – سيحتاج إلى غطاء سياسي وقانوني واسع، بحيث تمثّل توافقاً وطنياً لا مجرد تبديل في الوجوه أو المناصب.
تحولات ما بعد الحرب على غزة
الاستقالة تأتي في سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد، حيث تُطرح بقوة فكرة إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية لتكون طرفاً فاعلاً في إدارة مرحلة ما بعد الحرب على غزة، وفي الإشراف على جهود الإعمار والمصالحة الوطنية.
وفي هذا الإطار، تتلاقى المواقف الدولية والعربية على ضرورة تعزيز المؤسسات الفلسطينية وتوسيع المشاركة السياسية، لتكون السلطة قادرة على التعامل مع ملفات الداخل والاقليم على حدّ سواء.
كما أن بعض الأطراف الإقليمية والدولية ترى في حكومة فلسطينية بصلاحيات موسعة وسيلة لإعادة تنشيط المسار السياسي، وتهيئة الأرضية لمرحلة انتقالية قد تتضمن ترتيبات ميدانية وإدارية جديدة بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
الحكومة الموسعة بين التحدي والفرصة
الحديث عن حكومة ذات صلاحيات موسعة لا يعني مجرد توسيع المناصب أو الوزارات، بل إعادة تعريف لدور السلطة التنفيذية في إدارة الشأن الوطني الفلسطيني.
فالحكومة الجديدة – إن شُكلت – يُفترض أن تمتلك القدرة على:
تنفيذ إصلاحات مالية وإدارية جادة تعيد الثقة بالمؤسسات العامة.
التعامل مع المانحين بمرونة تحفظ السيادة الوطنية.
إدارة ملفات الإعمار والمصالحة وفق رؤية وطنية شاملة.
التحضير لانتخابات عامة تُعيد الشرعية لمؤسسات الحكم الفلسطيني.
غير أن هذه الطموحات تصطدم بعدة عقبات، أهمها غياب البيئة السياسية الموحدة بسبب الانقسام، واستمرار القيود الإسرائيلية التي تعيق ممارسة السلطة لصلاحياتها الكاملة، إضافة إلى التدخلات الخارجية التي تضع شروطاً على التمويل والإصلاح.
البعد العربي والإقليمي
عربياً، هناك اهتمام متزايد بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني كمدخل لتثبيت الاستقرار الإقليمي بعد حرب غزة.
فالدول العربية، وخصوصاً مصر والأردن والسعودية، ترى أن استعادة وحدة القرار الفلسطيني شرط أساسي لأي عملية سياسية قادمة، وأن تمكين حكومة فعالة وموحدة في الضفة وغزة خطوة ضرورية لوقف التدهور الإنساني والسياسي.
إقليمياً، تراقب الأطراف المؤثرة – ومنها تركيا وقطر – مسار التحولات الفلسطينية عن قرب، في ظل تصاعد النقاش حول مستقبل الإعمار والمصالحة ودور الفصائل الفلسطينية في النظام السياسي الجديد
البعد الدولي... بين الإصلاح والدعم المشروط
على الصعيد الدولي، تعكس الاستقالة اهتمام المجتمع الدولي بمسألة الحوكمة الرشيدة والإصلاح المالي، إذ تربط الجهات المانحة استئناف دعمها بإصلاحات حقيقية في الإدارة العامة، وتعزيز الشفافية والمساءلة.
لكن التحدي يكمن في أن هذه الشروط – رغم وجاهتها التقنية – قد تُستخدم كأداة ضغط سياسي تمس استقلال القرار الوطني الفلسطيني إن لم تُدار بحذر ودبلوماسية متزنة.
نحو رؤية وطنية جامعة
إن أي حكومة فلسطينية مقبلة، سواء كانت تعديلًا موسعاً أو حكومة جديدة، لا يمكن أن تنجح ما لم تنطلق من رؤية وطنية شاملة تستند إلى مبادئ الشراكة والتعددية، وتضع المواطن في صميم أولوياتها.
فالإصلاح الحقيقي لا يتحقق بالقرارات الإدارية وحدها، بل بتجديد الثقة بين الشعب ومؤسساته، واستعادة الوحدة السياسية على أساس البرنامج الوطني المشترك.
خاتمة
إن استقالة وزير المالية في حكومة محمد مصطفى تمثل نقطة تحوّل محتملة في مسار السلطة الفلسطينية، وقد تكون مقدمة لإعادة صياغة المشهد السياسي برمّته.
وما بين ضغوط الداخل واستحقاقات الخارج، تبدو القيادة الفلسطينية أمام مفترق طرق:
إما المضي في إصلاح شامل يعزز الشفافية والمساءلة ويكرّس الوحدة الوطنية،
أو البقاء في دائرة إدارة الأزمات دون حلول مستدامة.
إنّ تشكيل حكومة جديدة بصلاحيات موسعة – إن تحقق – يجب أن يكون خياراً وطنياً استراتيجياً يعبّر عن إرادة الفلسطينيين، لا استجابة لضغوط خارجية.
فالفلسطينيون اليوم بأمسّ الحاجة إلى حكومة فاعلة ومسؤولة تمتلك رؤية واضحة لإعادة بناء المؤسسات، وتعزيز صمود المواطن، وتمهيد الطريق نحو الحرية والاستقلال في إطار مشروع وطني جامع يحظى بالإجماع العربي والدولي.
|
تصميم وتطوير: ماسترويب 2016 |