تحولات التطبيع العربي: من بوابة واشنطن إلى التسليم بالهيمنة الإسرائيلية الكاملة
12/13/2025 8:40:00 AM
لطالما نظرت الأنظمة الحاكمة في منطقتنا العربية إلى مسار التسوية مع الاحتلال الإسرائيلي -بما يعنيه ذلك من إقرار بشرعية كيان قام على التطهير العرقي وسرقة الأرض- باعتباره الجسر الإجباري لرفع مستوى علاقاتها مع الولايات المتحدة إلى درجة "التحالف الاستراتيجي". لقد أسس أنور السادات لهذه السياسة أواخر السبعينيات عبر "كامب ديفيد"، مدشناً حقبة التحاق مصر بالمعسكر الأمريكي والقطيعة مع الإرث الناصري. وقد سار على هذا الدرب كل من لحق به في التسعينيات، إبان ذروة التفرد الأمريكي بالعالم، طامحين لنيل "عضوية" هذا النادي الذي يضمن عروش الحكام واستمراريتهم مقابل التبعية المطلقة للمركز الإمبريالي.
في المقابل، كانت الرؤية الإسرائيلية للتطبيع في تلك الحقبة تهدف إلى خلق نظام إقليمي مدمج، تكون فيه "تل أبيب" المركز التكنولوجي والاقتصادي المتطور، بينما يشكل المحيط العربي مجرد سوق استهلاكية ومصدر للعمالة الرخيصة، في استنساخ لتقسيم العمل الدولي التقليدي بين الشمال والجنوب. وقد عبر شمعون بيريز بوضوح عن هذا الطموح في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، كاشفاً عن رغبة إسرائيلية في السيطرة على المنطقة عبر البوابة الاقتصادية والتقنية قبل غيرها.
غير أن معظم العواصم العربية تصدت حينها لمقترحات "السلام الدافئ" الإسرائيلية، متمسكة بصيغة "السلام البارد" القائم على الاعتراف المتبادل مشروطاً بانسحاب الاحتلال من أراضي عام 1967، دون الانخراط في مشروع الهيمنة الإسرائيلية الشاملة. وقد تبلور هذا الموقف بوضوح عام 1994 عبر تشكيل محور (دمشق - القاهرة - الرياض) عقب قمة الإسكندرية الثلاثية، ما يعني أن السقف العربي آنذاك كان يقبل بالتسوية السياسية لكنه يرفض التطبيع الشامل والتبعية الاقتصادية.
جاءت "المبادرة العربية للسلام" في قمة بيروت عام 2002 لتمثل انزياحاً جديداً وتراجعاً عن الثوابت السابقة، حيث عرض العرب "التطبيع الكامل" ثمناً للانسحاب الكامل، وهو العرض الذي تجاهله الاحتلال باستهتار. ولا يخفى أن السياق الدولي الضاغط بعد أحداث 11 سبتمبر والتهديدات الأمريكية، كان المحرك الأساسي لهذا الموقف العربي الذي سعى بالدرجة الأولى لخطب ود واشنطن وتأكيد الانخراط في استراتيجيتها الكونية، درءاً للغضب الأمريكي.
المطلوب في المرحلة الراهنة يتجاوز التحالف التقليدي، ليصل إلى حد الإقرار الكامل بالسيادة العسكرية والاستراتيجية لإسرائيل على المنطقة بصفتها الوكيل الحصري للولايات المتحدة.
اليوم، اختلف مفهوم التطبيع ووظيفته بشكل جذري عما عهدناه في العقود الماضية. لم يعد الهدف مجرد إثبات الولاء للولايات المتحدة أو تعزيز التحالف معها سياسياً وعسكرياً؛ فهذه المسألة باتت من المسلمات القديمة لبعض دول الخليج، أو أصبحت واقعاً مفروضاً في دول أخرى نتيجة التحولات السياسية الداخلية.
إن المطلوب في المرحلة الراهنة يتجاوز التحالف التقليدي، ليصل إلى حد الإقرار الكامل بالسيادة العسكرية والاستراتيجية لإسرائيل على المنطقة بصفتها الوكيل الحصري للولايات المتحدة. وقد بات مصطلح "الهيمنة الإسرائيلية" متداولاً بكثافة في أروقة السياسة الغربية، كما عبر عنه الدبلوماسي الفرنسي جيرار آرو مؤخراً، حين وصف إسرائيل بأنها القوة المسيطرة على الشرق الأوسط، ناصحاً إياها بتقديم رؤية سياسية للمنطقة وعدم الاكتفاء بالقوة العسكرية المفرطة.
وتؤكد وثيقة الأمن القومي الأمريكي الأخيرة أن واشنطن لم تعد تضع منطقتنا في صدارة أولوياتها، بل تتجه لتوكيل مهام إدارة الإقليم لإسرائيل بعد سعيها للقضاء على قوى المقاومة. تهدف هذه الاستراتيجية إلى إجبار دول المنطقة على القبول بالهيمنة الإسرائيلية كضامن للمصالح الإمبريالية، مما يتيح لأمريكا التفرغ لملفات دولية أخرى أكثر إلحاحاً.
تشير القراءة المتأنية للتوجهات الأمريكية الحالية، وتصريحات فريق دونالد ترامب، إلى أننا أمام إدارة متهورة قد تؤدي سياساتها إلى إشعال المزيد من الصراعات وتعميق الخلافات حتى مع الحلفاء، مما يعيق تحقيق أهدافها. إن أوهام التطبيع تحت النار وعلى وقع المجازر لن يكتب لها النجاح، وستكشف الأيام القادمة أن رهانات البعض على هذا المسار ستسقط، كما سقطت رهانات من سبقهم، بفضل صمود شعوب المنطقة ومقاومتها.