تلفزيون نابلس
كوكا كولا
خدعة "وقف إطلاق النار": كيف يغطي العالم على استمرار الإبادة في غزة؟
12/13/2025 8:10:00 AM

 طرحت الكاتبة الفلسطينية داليا أبو رمضان، الصامدة في قطاع غزة، تساؤلاً جوهرياً في الخامس من ديسمبر/كانون الأول، مستغربة كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يصدق المزاعم الإسرائيلية باستمرار "الهدنة" المزعومة بينما الواقع يصرخ بغير ذلك.


لقد كان التضليل والخداع عنصراً جوهرياً في ما سُمي بـ"اتفاق السلام" منذ لحظة ولادته. بدأت فصول هذه المسرحية السياسية في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول خلال قمة شرم الشيخ في مصر، حين وقع دونالد ترامب على وثيقة "وقف النار" بحضور قادة وممثلين عن نحو ثلاثين دولة.

وكرر ترامب إعلاناته بأن الحرب في غزة قد وضعت أوزارها، مدعياً بأسلوب استعراضي أن الوصول لهذه اللحظة استغرق ثلاثة آلاف عام، ومؤكداً بثقة مفرطة أن هذا الاتفاق سيصمد ولن ينهار، في محاولة لفرض واقع سياسي جديد.

وقد لاقى هذا الاتفاق ترحيباً وإشادة واسعة من شخصيات بارزة في الحزب الديمقراطي الأمريكي أيضاً، بمن فيهم الرئيس جو بايدن، والرئيس الأسبق بيل كلينتون وزوجته هيلاري، ونائبة الرئيس كامالا هاريس.

واعتبرت تقارير صحفية أمريكية الحدث بمثابة "جولة انتصار" لترامب، الذي حظي بتصفيق حار داخل الكنيست الإسرائيلي، حيث وصف اللحظة بأنها "فجر تاريخي لشرق أوسط جديد"، وسط احتفالات صاخبة تزامنت مع الإفراج عن عدد من الأسرى الإسرائيليين المتبقين لدى المقاومة.

بدت قمة شرم الشيخ وكأنها عرض مسرحي أكثر منها مفاوضات جادة، حيث ركزت على تلميع صورة "صانع السلام" المفاجئة لترامب. وقد وصف دبلوماسي، فضل عدم الكشف عن هويته، الأجواء بأنها غريبة للغاية ومجرد استعراض خطابي جنوني يفتقر للجدية السياسية.

نجحت القمة في رسم مسار محدد للإعلام التقليدي والمؤسسي لتبني رواية تتجاهل عامين من الوحشية والإبادة الجماعية التي ارتكبها الاحتلال في غزة، وكأن التاريخ بدأ لحظة التوقيع، متناسياً أعداد الضحايا الهائلة التي قدرها قائد عسكري إسرائيلي سابق بنحو مائتي ألف بين شهيد وجريح.

وسرعان ما تبنت وسائل الإعلام العالمية سردية "وقف إطلاق النار"، مفترضة بشكل تلقائي وساذج أن جيش الاحتلال قد أوقف عدوانه وهجماته على المدنيين الفلسطينيين العزل.

ورغم إعلانات ترامب المتكررة، كان الواقع مغايراً تماماً؛ فالاتفاق لم يصمد على الأرض، لكن الرواية الخيالية استمرت بفضل التلاعب الإعلامي المدروس والتعتيم الكامل على أخبار المجازر المستمرة والهجمات الإسرائيلية.

وكشفت تقارير رصد إعلامي أنه خلال الأيام العشرة الأولى من الهدنة المزعومة، قتل الاحتلال ما يقارب 97 فلسطينياً وأصاب المئات، مع تسجيل عشرات الانتهاكات للاتفاق، دون أن يظهر أي عنوان رئيسي في الإعلام الغربي يشير بوضوح إلى خرق إسرائيل للاتفاق.

تم التقليل من شأن المذابح المستمرة في غزة بشكل منهجي، مع الإصرار على أن الإبادة قد "توقفت تقريباً"، مما أدى إلى صياغات صحفية متناقضة وصادمة مثل "الهدنة مستمرة رغم الغارات الإسرائيلية"، استناداً لتصريحات ترامب فقط كمصدر للحقيقة.

ورغم الانتهاكات المتبادلة المزعومة، كان يتم تصوير الهجمات الإسرائيلية بعد وقوعها على أنها "تجديد للالتزام بالهدنة"، وهو منطق عبثي لا يستقيم، إذ لا يمكن تسمية الوضع بوقف إطلاق نار مع استمرار القصف والقتل، كما أشار مراقبون.

وفي السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، خرقت منظمة العفو الدولية جدار الصمت بتقرير يؤكد أن السلطات الإسرائيلية ما زالت تمارس الإبادة الجماعية، وتفرض عمداً ظروفاً معيشية تهدف للفناء الجسدي للسكان في غزة، دون أي تغيير حقيقي في نواياها.

ومنذ بدء الاتفاق الشكلي، واصل الاحتلال منع دخول المساعدات الضرورية من غذاء ودواء، حيث لم يسمح إلا بمرور خُمس الكميات الموعودة، مع استمرار إغلاق معبر رفح بشكل كامل في وجه الإغاثة الإنسانية.

وأفادت مصادر صحفية مستقلة أن الغارات الإسرائيلية اليومية أودت بحياة أكثر من 350 فلسطينياً، بينهم عدد كبير من الأطفال (136 طفلاً)، مما دفع المنظمات الحقوقية للتحذير من الانخداع بالهدنة الكاذبة بينما الإبادة مستمرة فعلياً على الأرض.

أقنع الاحتلال العالم بأن حمام الدم في غزة قد توقف، بينما في الواقع، لا تزال العائلات تمحى من السجلات المدنية في صمت تام.
ويكفي الاستماع إلى أصوات الشهود من داخل القطاع المحاصر لإدراك حقيقة الوضع المأساوي الذي يعيشه السكان.

تروي داليا أبو رمضان تفاصيل ليلة التاسع عشر من نوفمبر، حين استيقظت مرعوبة على وقع انفجارات هزت الأرض، معتقدة أن الحرب عادت بكامل ضراوتها وأن الهدنة انهارت، رغم أن القصف كان يبعد عنها عدة كيلومترات، إلا أن شدته كانت مرعبة.

وتصف المشهد بأن الاحتلال أراد تذكير الغزيين بأن الهدنة التي يتغنى بها العالم ليست سوى غطاء رقيق يخفي تحته نيران الموت التي لا تنطفئ ولا تتوقف عن الاشتعال.

في تلك الليلة الدامية وحدها، ارتقى 28 شهيداً، معظمهم من الأطفال، وأصيب العشرات في قصف استهدف أحياء سكنية مكتظة، تحت ذريعة الاحتلال المعتادة باستهداف "قادة في المقاومة".

وقد كشف البحث البسيط أن وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى تجاهلت هذه المجزرة تماماً ولم تأتِ على ذكرها، في تواطؤ واضح بالصمت.

والتقارير القليلة التي نُشرت تبنت إطاراً كاذباً حول "المسؤولية المشتركة"، حيث أشارت إذاعة أمريكية إلى تبادل الاتهامات، معترفة بوقوع غارات إسرائيلية وسقوط ضحايا، لكنها أصرت في الوقت نفسه على أن اتفاق ترامب "لا يزال سارياً" بعد أسابيع من إعلانه.

ورغم عدم تسجيل ضحايا إسرائيليين، ردد الإعلام مزاعم الاحتلال حول عبور مسلحين لـ"الخط الأصفر"، وهو خط يزحف باستمرار لقضم أراضي غزة في عملية استيلاء غير شرعية، وقد تسبب في استشهاد شقيقين كانا يجمعان الحطب بدعوى تجاوزهما لهذا الحد المتحرك.

وتخلص داليا إلى أن الاحتلال نجح في إقناع العالم بتوقف شلال الدم، بينما يتم شطب عائلات بأكملها من السجل المدني بصمت تام، متسائلة عما إذا كان العالم يصمت فقط لوجود ورقة سياسية تسمى "وقف إطلاق نار".

ويبقى السؤال المؤلم الذي يطرح نفسه: كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يتقبل هذه الكذبة الكبرى ويبتلعها بينما يتوسع المشروع الاستيطاني والعسكري أمام الأنظار؟

قد نجد تفسيراً لهذا الإنكار في تصريحات هيلاري كلينتون الأخيرة في نيويورك، التي اتهمت منصات التواصل الاجتماعي، وتحديداً "تيك توك"، بنشر محتوى ملفق عن غزة، معتبرة ذلك السبب وراء دعم الشباب للقضية الفلسطينية.

فمن وجهة نظر كلينتون والنخبة السياسية التقليدية، تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد ساحة للأكاذيب والتضليل يجب محاربتها.

وهذا المنطق يعني ضمناً أن كل من يصدق التقارير الحقوقية والشهادات الحية والأدلة البصرية عن الإبادة هو ضحية لغسيل دماغ يمارسه "الشيطان الجديد" المتمثل في الإعلام الرقمي الحديث.

لكن الصحفي والمحلل علي أبو نعمة يرى أنه رغم الدعاية المكثفة، فإن التحول في الوعي العالمي تجاه إسرائيل، خاصة بين الشباب، وصل إلى نقطة اللاعودة، حيث يتآكل الدعم لكيان الاحتلال، مما يدفع النخب لمزيد من القمع والرقابة لمحاولة السيطرة على السردية.

وفي خضم هذه الأحداث، قام ترامب، المنتشي بدوره المزعوم كصانع للسلام، بوضع اسمه على مبنى "معهد السلام الأمريكي" في واشنطن، بعد أن كان قد جرد هذه المؤسسة المستقلة من تمويلها الفيدرالي في وقت سابق من العام.

وقد احتفت الخارجية الأمريكية بهذا التغيير عبر منصة "إكس"، معلنة عن "معهد دونالد ترامب للسلام"، ليعكس هوية "صانع الصفقات"، رغم أن ترامب يواجه انقساماً وكراهية غير مسبوقة في الداخل الأمريكي، تماماً كما هو حال حليفته إسرائيل على الساحة الدولية.

تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة