
في واحدة من أقسى المشاهد التي تعيشها قرى جنوب نابلس، يجد سكان قريوت أنفسهم وجهاً لوجه أمام الجرافات الإسرائيلية وهي تلتهم ما تبقى من أراضيهم الزراعية، وتقتلع أشجار الزيتون التي حملت ذاكرة المكان عبر أجيال متعاقبة.
بين دقائق تنقلب حياة كاملة، ويتحوّل العطاء الذي صُنع على مدى عقود إلى فراغ ترابي قاسٍ، يصفه الأهالي بأنه "محاولة لاقتلاع القرية من جذورها".
فبحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، استولت سلطات الاحتلال على أكثر من 70 ألف دونم من أراضي قريوت واللبن الشرقية والساوية، بذريعة "أغراض عسكرية"، في خطوة يعتبرها الفلسطينيون غطاءً لتمهيد توسع استيطاني جديد يطوّق نابلس ويخنق قراها الجنوبية.
ومنذ يوم الأحد، تعمل آليات الاحتلال بلا توقف على تجريف مساحات واسعة من الأراضي، مستهدفة أشجار الزيتون المعمرة التي ورثها سكان القرية عن آبائهم وأجدادهم، وجعلت من قريوت أحد أقدم منابت الزيتون في منطقة نابلس.
“الزيتون مثل أولادي”
على أطراف القرية تقف أم مجدي عبد الغني، تراقب ما تبقى من جذوع زيتون اقتُلعت للتو، وتقول بصوت مرتجف:
"الأرض والزيتون مثل أولادي… تعب عمري يذهب أمامي، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً."
تمسح بيدها على تربة مقلوبة حديثًا، وتشرح كيف كانت هذه الأشجار مصدر رزق وذاكرة للعائلة:
"هذا الزيتون عمره من عمرنا… هو حياتنا. اليوم يُقتلع كل شيء أمام أعيننا."
أما زوجها محمد، السبعيني، فيسند نفسه على عكازه، ويشير إلى أرضه التي صودرت نصف مساحتها، قائلاً:
"ألف شجرة دُمِّرت هنا… ألف ذكرى وألف موسم. كأنهم يقطعون قلبي."
اعتداءات لا تتوقف
على مسافة قريبة، تقف المسنة صدقية خروش فوق جذور مقتلعة، وتقول:
"لم يتركوا شيئاً… كل يوم اعتداء جديد: مرة حرق، ومرة منع وصول، والآن اقتلاع كامل."
وتضيف أن التجريف بات يقترب مباشرة من منازل السكان، ما يثير مخاوف جدية من إقامة وحدات استيطانية جديدة تلاصق بيوت القرية.
هذه الاعتداءات ليست جديدة على قريوت؛ فالقرية التي كانت تمتد على مساحة 22 ألف دونم لم يتبق منها سوى 1200 دونم فقط، بعدما طوّقتها المستوطنات والبؤر الاستيطانية: عيلي، شيلو، شفوت رحيل، وغيرها.
“جريمة ممنهجة”
بشار القريوتي، الناشط في مواجهة الاستيطان، يصف ما يحدث بأنه
"جريمة متطورة تمارسها حكومة متطرفة ضد الشجر والبشر والحجر."
ويحذّر من مخطط لمصادرة 400 دونماً إضافية ضمن مشروع استيطاني ضخم يستهدف قلب نابلس ومحيطها الجنوبي.
ويؤكد أن المستوطنين باتوا يتحكمون فعلياً في المنطقة، بينما تتعرض أراضي مصنفة ضمن “ب” لعمليات تجريف وهدم، خلافاً للاتفاقيات الدولية، في مشهد يعكس انفلاتاً استيطانياً غير مسبوق.
سياسة تلتهم الأرض وتخنق نابلس
الاستيطان الذي تصفه الأمم المتحدة بأنه غير قانوني، يتصاعد بوتيرة غير مسبوقة منذ بدء الحرب على غزة عام 2023، ويمتد ليبتلع مزيداً من أراضي الضفة، خصوصاً في محيط نابلس التي تشهد واحدة من أعنف الهجمات الاستيطانية في تاريخها.
وخلال نوفمبر الماضي فقط، استولى الاحتلال على 2800 دونم، فيما أصدرت سلطاته منذ بداية 2025 أكثر من 53 أمراً عسكرياً لوضع اليد على الأراضي.
وبينما تدعو الأمم المتحدة منذ عقود إلى وقف التوسع الاستيطاني باعتباره يقوّض حل الدولتين، تواصل إسرائيل –بحسب وثائق عبرية حديثة– دعم خطط لتوسيع البؤر الزراعية غير القانونية وإضفاء الطابع الرسمي عليها.
في قريوت، كما في كثير من قرى نابلس، لا يرى السكان في أشجار الزيتون مجرد مصدر رزق، بل جذوراً للذاكرة والهوية والانتماء.
واليوم، ومع كل شجرة تُقتلع، يشعرون أن قطعة من تاريخهم تُسلب… وأن الأرض التي صمدت مئات السنين تقف وحيدة في مواجهة مخطط لا يريد ترك أي أثر للحياة الفلسطينية حولها.
أخبار محلية
أخبار الاقتصاد
أخبار فلسطينية
تكنولوجيا وعلوم
أخبار عربية
|
تصميم وتطوير: ماسترويب 2016 |