تلفزيون نابلس
السيادة والسلطة والمشروعية
11/18/2014 12:57:00 PM

 

بقلم: د. حنا عيسى – استاذ القانون الدولي

مفهوم الدولة ليس مستحدثاً، إنه يعود إلى عصور قديمة حيث تتحدث نصوص الفلسفة اليونانية عن الدولة-المدينة، ثم تطور هذا الجهاز في عصر الحداثة ليرتدي طابع الدولة القومية. ورغم ما بين الشكلين من اختلاف، يجمع بينهما قاسم مشترك هو مفهوم السلطة والسيادة التي تضفي على سياسة الدولة مهابة وشرعية تحمل الأفراد على طاعة سلطتها واحترام هيبة القانون. ويفترض في كل كيان سياسي أن يحكم بين الناس بالعدل ويساوي بين حظوظهم وحقوقهم على نحو يجعل كل فرد منهم مستعدا للتخلي عن حريته وحقه المطلقين في سبيل حرية وحقوق شرعية يكفلها القانون؛ هذا هو وجه العقلنة في كل ممارسة سياسية، فهي تحرر الفرد من قاعدته الطبيعية لتزرع فيه "إنية سياسية" تنشئه على مفهوم المواطنة وتربيه على نمط مدني من الغيرية. ولكن حين تنقلب السلطة السياسية إلى تسلط، وتنقلب السيادة إلى عنف أو إفراط في القوة، تنتفي الشرعية وتتحول الدولة في كل مجتمع إلى كيان غريب ينتج الاغتراب السياسي أكثر مما يستجيب إلى تطلعات الأفراد إلى الحياة الخلقية والقيم: فتكف الدولة عن أن تكون وازعاً قانونياً وشرعياً بين الناس لتتحول إلى حُكم مستبد، أو" تنين هائج يدوس تحت أقدامه الحقوق الحريات "؛ وقد أطلق فلاسفة السياسة ومنظرو الدولة على هذا الوضع: أزمة المواطنة وأزمة الديمقراطية.

 

*أصول التأسيس السياسي لنظرية الدولة والسيادة:

 

*الأصل التيوقراطي: التيوقراطية هي نظرية سياسية قديمة تعني الحكم الإلهي أو نظرية الحقّ الإلهي، ويطلق عليها أحيانا "حقّ الملوك المقدّس" وهي نظرة قد تؤدّي إلى تأليه الملك أو الحاكم وعبادته وتقديسه حتّى بعد وفاته، وهذا ما يشهد به تاريخ بعض الشعوب القديمة مثل الحضارة الرومانية أو المكسيكية أو الفرعونية ففرعون ابن الإله "رع" الذي سيتولى محاكمته بعد موته. أمّا أثناء حياته فهو الإله الكامل «إنّه يشكّل الفكر الموجّه والمغذّي الملتحم بالأرض والسّماء وجميع السكّان سواء كانوا آلهة أم بشراً، هذا وقد تطوّر هذا المفهوم في القرون الوسطى إذ لم يعد ينظر إلى الملك على أنّه إله وإنّما يعتبر خليفة له على الأرض فهو يحكم باسم الإله الذي فوّض له السلطة، ومن ثمّ سُميّت هذه النظرية بالتفويض الإلهي، أمّا في أوروبا فنجد أنّ هذه الفكرة ستأخذ معنى آخر مع القدّيس أوغسطين في القرن 5 ميلادي والقديس توما الأكويني اللذان قالا بلا مباشريّة الحقّ الإلهي حيث أنّ السلطة لا تنتقل مباشرة من الله إلى الحكّام بل تتمّ عن طريق توسّط البشر الذين يختارون حكامهم، وإذا ما وقع اختيارهم يكون لزاماً عليهم أمام الله طاعتهم وعدم استعمال العنف للإطاحة بهم مهما بلغت درجة استبدادهم، وذلك ﻷنّ المسيحية دين يدعو للتسامح ونبذ العنف. إنّ هذه التوجّهات الدينية لن تعجب فيما بعد دعاة الحرّية والديمقراطية والمناهضين لشتّى أنواع القمع السياسي لذلك سيشهد تاريخ الأفكار السياسية بدايات التفكير اللائكي القائم على فصل الدين عن الدولة الذي سيسهم إسهاماً كبيراً خاصّة مع فلاسفة العقد الاجتماعي في تحويل وجهة التفكير السياسي من التيوقراطية إلى الديمقراطية.

 

الأصل الفيزيوقراطي (الطبيعي): جمهورية أفلاطون ونظرية الفيلسوف الملك: تعتبر محاورة الجمهورية لأفلاطون من المرجعيّات الهامّة بين الكتابات الفلسفية السياسية، حيث كان موضوع المحاورة هو مشكل العدالة هذا وقد طرح فيها أفلاطون نظريته السياسية بشأن الدولة المثالية التي يرجع أصلها إلى الطبيعة الإنسانية ونظرية تقسيم العمل الاجتماعي حيث يرى هذا الأخير أنّ أصل الدولة هو حاجة الإنسان إلى الاجتماع أوّلا وذلك لعجزه عن تلبية كلّ حاجاته ويكون تقسيم الوظائف في المجتمع حسب القدرات التي أهل كلّ فرد طبيعياً للقيام بها. يتكوّن أصغر تنظيم اجتماعي ممكن لقيام مدينة من شخص قادر على تأمين المأكل وآخر على تأمين اللباس وثالث قادر على تأمين السكن فتكون بذلك ما يُسمّيه أفلاطون بمدينة الحاجة ثم تتّسع المدينة بعد وجود تنظيم سياسي محكم وإدارة قائمة على الأمن والعدالة وتتقوّى الدولة إلى أن يصبح من الضروري القيام بغزو الدول المجاورة لجلب الثروات وتحقيق دولة الرّفاه. إنّ نظرية التأسيس السياسي للدولة لا تخرج عن تقسيم المواطنين حسب المؤهّلات الطبيعية حيث يرى أفلاطون أنّ أغلبية الناس تحركهم دوافع الحاجة والرغبة وهؤلاء يكون دورهم في جمهوريته الفاضلة هو العمل اليدوي.

 

*السيادة والسلطة والمشروعية

 

إن الانتقال من مستوى الوجود الفردي والشخصي والجزئي، إلى مستوى الوجود المدني السياسي هو المقتضى الذي يتحقق به وجود الإنسان على وجه كوني. هذا الانتقال هو الذي يسمح، تحديدا، بالقطع مع مستوى الوجود الطبيعي المباشر المحكوم بمقتضى الحاجة البيولوجية إلى مستوى وجود، مختلف كلياً، يقوم على انتظام اجتماعي مدني سياسي يتحقق ضمنه تحرر الإنسان من الضرورة الطبيعية ليدخل مجال الضرورة الاجتماعية. تتحدد هذه الضرورة الاجتماعية في ضرورة "العيش المشترك" ضمن قواعد ومقتضيات تجعل من العيش المشترك حافزا للاجتماع الإنساني، وليس عبئاً، على الفرد احتماله رغما عنه. يقتضي ضمان العيش المشترك توفر سلطة يكون بمقدورها تنظيم العيش المشترك ورعايته، بمعنى تثبيت المقومات التي تجعل من العيش المشترك مطلباً وليس عبئاً. وهو ما يجعل من وجود سلطة تتوفر على آليات تمكنها من تثبيت مطلب العيش المشترك، و سواء ارتبطت هذه الآليات بأدوات المراقبة، أو بأدوات العقاب، فإنها ضرورة تجد مبررها في ذاتها.

 

يتعلق ضمان العيش المشترك ضرورة بوجود سلطة يكون موضوعها الشأن العام؛ بمعنى التوفيق بين المصالح المختلفة، وأحيانا المتناقضة بين الأفراد. هذا الاختلاف في المصالح، وبغض النظر عن تحديد مبرراته في هذا المستوى، يقود ضرورة إلى النزاع، نزاعا لا يتعلق بمصلحة شخصية وإنما باختلاف الأفراد في تحديد كيفية تنظيم الشأن العام وإدارته. إن هذا التحديد الأولي لدلالة السلطة هو الذي نقصده بمفهوم السلطة السياسية. يجب التنبيه في هذا المستوى أن الحديث لا يعود على دلالة السلطة بإطلاق وإنما فقط على دلالة السلطة السياسية. ذلك ، أنه لا يمكن اختزال دلالة السلطة في مجال السياسة حيث إن فهم حقيقة هذه الظاهرة الإنسانية يوجب حسب ما بينه فوكو الإقرار باتساعها لتشمل مختلف مجالات الوجود الإنساني وفي مختلف مستوياته


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة