تلفزيون نابلس
أفكار غولدا مائير... لتطويع أطفال القدس المحتلة
9/29/2014 6:12:00 AM

 ليست قضية "تطويع الفلسطينيين" مسألة جديدة، فإسرائيل تعمل دائماً من أجل دفعهم إلى نسيان تاريخهم. ويذكر "أرشيف إسرائيل"، تحت تصنيف "شرق القدس"، أنه في إحدى المراسلات التي دارت عقب حرب عام 1967، وناقشت موضوع "من يتولّى ملف عرب القدس من المسؤولين الإسرائيليين"، صدر كلام لرئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير، بقولها عام 1970 "عرب العاصمة كعرب إسرائيل".

وتقصد مائير في ذلك، أنه يمكن السيطرة على الفلسطينيين في القدس، التي احتُلّت حديثاً في وقتها في عام 1967، كما سبق وتمت "السّيطرة" على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948. ويعني ذلك فيما يعنيه، محاصرة أي مرجعية سياسيّة وطنيّة نشطة في المدينة، وطمس الوعي والهوية الوطنية الفلسطينية، إضافة إلى إغراق "عرب العاصمة"، المقدسيين، بتحسين أوضاعهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة، وتحويل مشاكلهم إلى مشاكل يمكن حلّها تحت تصنيف "سدّ الثغرات".

وهنا تشتهر المقارنة الرائجة بين الظّروف المعيشية فيما يُسمى "القدس الشّرقيّة" و"القدس الغربيّة"، على اعتبار أن القضاء على الفرق الشاسع في الخدمات والبنى التحتية بين أحياء الفلسطينيين وأحياء الإسرائيلييين المحتلّين، هو الباب الذي سيدخل من خلاله الإسرائيلي إلى قلب العربيّ المقدسيّ ويتربع عليه، وبالتالي يحلّ "أزمة العاصمة".

ولم يعد غريباً أن نرى أن ما يُطلق عليه اليوم "اليسار الإسرائيلي"، يتبنّى التصوّر الذي طرحته مائير في عبارتها. كما تعبّر صحيفة "هآرتس"، الواجهة اليسارية المعروفة في الأوساط الإسرائيلية، عن ذلك بوضوح. وتغطّي الصحيفة "أمور العرب" أكثر مما تغطيها وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى، فدائماً ما نرى فيها تقارير عن اعتداءات جنود الاحتلال والمستوطنين في الضّفة الغربيّة، أو عمّا تسميه "حقوق الأقلية الفلسطينية في إسرائيل"، وعن ضرورة اهتمام "الدولة"، دولة الاحتلال، بأمورهم وتخصيص الميزانيات لذلك. وهو الأمر الذي يثير إعجاب وتقدير بعض العرب ممن لا ينجحون في الالتفات إلى ما تقوله تلك التقارير سياسياً دون أن تكتبه، أو ما يُدعى بـ"الإيديولوجيا وراء التقرير الصّحافيّ".

وفي عددها الموسع الصّادر، يوم الجمعة نشرت "هآرتس" تقريراً عن العدد المتزايد من الأطفال المقدسيين المعتقلين في سجون الاحتلال، وذلك منذ اندلاع المواجهات في أحياء القدس بعد استشهاد الطفل محمد أبو خضير. يتحدث التقرير عن انتهاكات سلطات الاحتلال لحقوق هؤلاء الأطفال المعتقلين، وعن تعامل الجهاز الأمنيّ والقضائيّ الإسرائيلي القاسي معهم.

كان ذلك التقرير، أما ما وراء التقرير فيمكن لمسه بشكل أعمق في مقال الصحيفة الأسبوعي الذي نشر، يوم الأحد الماضي، بعنوان "العناية بالقدس الشرقية". ومنذ اللحظة الأولى لقراءة العنوان نلاحظ أن الصحيفة تتبنّى استراتيجية مقولة مائير، فهي لا تقول "إنهاء الاحتلال" إنما تقول "العناية بها". أي بمعنى آخر هي مناشدة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي من قلب شريحة من المجتمع الإسرائيلي، تتستر بغطاء التقدمية واليسارية وترفع شعارات مثل الدعوة إلى "المزيد من صرف الأموال على عرب العاصمة وتحسين شوارعهم وبناء المدارس والمراكز الصّحيّة ومنحهم رخص البناء"، بما يُفضي إلى نسيان الفلسطينيين قضيتهم وهويتهم.

وفي تفاصيل المقال، تعقد الصحيفة مقارنة بين الفترات التي يقضيها الأطفال الفلسطينيون في سجون الاحتلال وبين تلك التي يقضيها الإسرائيليون، فإمكانية إطلاق سراح الإسرائيليين حتى لو ارتكبوا جريمة خطيرة أعلى من الإمكانية التي يحظى بها الفلسطينيون. وتشير الصحيفة إلى أنه "من الصعب التخلص من الشّعور بأن النظامين القانونيّ والقضائيّ قررا تصعيد

الأمور مع الفتية المشتبه فيهم، على حساب الفرصة القائمة لإعادة تأهيلهم، على أمل أن يؤدي هذا الأمر إلى تهدئة النفوس".

وتتعامل الصحيفة مع الأطفال المعتقلين كمن يعاني من مشاكل صحيّة أو اجتماعيّة في أي مجتمع عادي لا يوجد فيه واقع استعماري، وذلك فإن أهم ما يلزمه هو "إعادة التأهيل". هو تأهيل بما يوافق المعيار الإسرائيلي، وتوجيهه إلى "المسار الذي يضمن مستقبلاً فردياً أفضل".

ولكن ما يزعج إدارة تحرير "هآرتس" أكثر، بحسب المقال هو أن "انخراط أطفال القدس في العنف يكشف عدم جدوى السياسة التي تتبعها إسرائيل في شرق القدس". ويذكر حينها مصطلح "الاحتلال" للمرة الأولى في المقال، قبل اختتام المقال بالقول إن "هؤلاء الفتية مستعدون لدفع الثمن والمراهنة على مستقبلهم من أجل التعبير عن غضبهم وإحباطهم"، مما تسميه الصحيفة "ظروف حياتهم". وفي الختام توجه نداءً للحكومة الإسرائيلية وبلدية الاحتلال في القدس بأن "استمرار الجهتين في تجاهل مشاكل شرق القدس وترداد: القدس موحّدة للأبد، لن يساهم في تهدئة النفوس".

تظهر من هذه المصطلحات: "إعادة التأهيل"، و"ظروف الحياة"، و"مشاكل شرق القدس"، و"العنف"، و"العناية بالقدس"، ومن تحميل البلدية الإسرائيلية جزء من المسؤولية عن "الوضع"، أن "هآرتس" في نهاية الأمر تنظر إلى غضب الفلسطينيين في القدس، على اعتباره مجرد إحباط نابع من "الظروف المعيشية التي يعيشونها"، والتي لا يكون حلّها بإنهاء الاحتلال أولاً، إنما يكون الحلّ بتحمل "السلطات"، أي سلطات الاحتلال المسؤولية وتخصيص الميزانيات اللازمة والاهتمام الكافي للقضاء على الفوارق المعيشية ما بين "القدس الشرقية"، و"القدس الغربية"، على حد تعبيرهم.

وكأن الشّبان والأطفال الذين خرجوا غاضبين في شوارع القدس في الشّهرين الأخيرين لم يخرجوا تعبيراً عن انتمائهم الوطني الفلسطيني، وعن قضيتهم السّياسيّة بالأساس، وإنما خرجوا، كمثل سكان أيّ حيّ مهمل في مكان ما في دولة عادية، يحتجون على تهميشهم وإهمال أوضاعهم المعيشية.

ليست هذه محاولة "لفضح" صحيفة "هآرتس" أو أي إعلام إسرائيلي آخر يُعرّف نفسه بأنه تقدمي يساري في تناوله لأخبار الفلسطينيين، فمن الغباء الشّديد أن نحمل التوقعات إزاء إعلام الاحتلال. إنما هذه مجرد محاولة لقراءة ما وراء الأخبار، وللتقليل من حماسة بعض العرب الذين يرددون مقولات الإعلام الإسرائيلي ويفرحون لاهتمامه بهم، ويتسابقون للتصريح أمامه بآرائهم، بعد تعديلها طبعاً، لتوافق المزاج العام المطروح في ذلك الإعلام.


تصميم وتطوير: ماسترويب 2016
جميع الحقوق محفوظة