بقلم: د.حسن عبد الله
لكاتب الفسطيني رشاد ابو شاور أبرز في احدى رواياته القواسم المشتركة بين نابلس ودمشق، بخاصة الاحياء القديمة في المدينتين، معتبراً ان هذه المدينة الفلسطينية هي باختصار دمشق الصغيرة، بناءً واسواقاً وعادات اجتماعية، وكان سبقه قبل قرون في توثيق التشابه النابلسي—الدمشقي، ابن بطوطا الذي زار نابلس واعجب بها أشد إعجاب.
ونابلس ليست مدينة فلسطينية ضاربة الجذور في التاريخ فحسب، بل انها ايضاً تعتبر ركيزة رئيسة للاقتصاد الفلسطيني، لاسهامها الواضح في العملية الانتاجية، لذلك فقد حوصرت في الانتفاضتين لدرجة الاختناق، فأفلس كثير من مشاغلها ومصانعها وشُل اقتصادها، فيما تم استهداف بنيانها ومعالمها التاريخية في عمليات الاجتياح، في محاولة للانقضاض على ماض اسس لحاضر استمد حيويته من سياق طويل لعلاقة الانسان النابلسي ببيئته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
في كل مرة ازور الاحياء القديمة واتجول فيها، اعيش حالة وجدانية خاصه، حينما اتنشق عبق التاريخ، واشعر انني محاط بالآف السنين، حيث يتداخل الماضي السحيق والحاضر الذي يصر بعناد على احتضان مستقبل، فيه كثير من الجديد، وكثير من الموروث العمراني والاجتماعي.
في كل مرة اطوف في الاسواق القديمة المسقوفة او المفتوحة المتصلة بالسماء، اتذكر الروائية سحر خليفة التي خصصت في نصوصها مساحة واسعة للاحياء العتيقة في نابلس، من خلال الغوص في الماضي والحاضر، والتغلغل في اعماق شخصية الانسان النابلسي، وتحليل عناصرها ومكوناتها وعلاقتها بالمكان والزمان.
في نابلس القديمة، طالما شدتني البنايات والمحال التجارية الملتحمة بالزمن، المطاعم، المقاهي، الكنافة، نداءات بائعي الخضار، دبلوماسية التجار في استمالة الزبائن واستقطابهم باساليب تشويقية سلسة.
وفي الاحياء ذاتها، اتخيل باستمرار، ان الحجارة تنطق، تتكلم، تستأنس، تتابع الناس، تتفحصهم، وكأنها تعرف ما يجول في خواطرهم من أفكار وانطباعات. وعندما امعن النظر في الصناعات النابلسية المعروضة في المحال وامامها، يتلبسني اعتقاد، بان للسلع ارواحاُ، لان الصانع المنتج ينفث في صناعته روحاً من روحه.
يدهشني في نابلس القديمة هبوط الحمام بسلام على قباب المساجد، وكلما رفعت حمامة رأسها الى الأعلى، اتأكد انها تبتهل الى الخالق، تشكره، على رعايته للحمام والانام في مكان تزاوج تراتيل ابناء المدينة المسلمين والمسيحيين والسامريين، في مكان تزاوج وتكاثر الحمام.
في نابلس القديمة سحر خاص للنرجيلة والحمّام وفنجان القهوة الذي يقدم للزائر، بعد انتهائه من عملية استحمام مشبعة بالحرارة والبخار، أجواء تنتزع الانسان من عصره وتحمله الى عصر مختلف، وقد طاب لي شخصياً في المكان نفسه السفر بين العصور.
أمشي في الاحياء ببطء وحميمية تماماً كما تمشي العراقه، نعبر الاسواق معاً، فتستوقفني العراقه وهي تعلن عن نفسها في كل متر، تتوقف تعانق الناس، مضمخة بالصابون والياسمين والبهار ورائحة القهوه وماء الورد.
اتخلص من المشي البطيء، احث خطاي، اروح ابحث عن ابراهيم وفدوى طوقان، ابحث عن علي الخليلي، فاجد دواوينهم في مكتبات صغيرة، فتشتعل في داخلي نشوة غريبة، عندما ارى الدواوين الشعرية صارت متماهية مع المكان تنبض بنبضة، فقد اثلج صدري ان المكان محروس بالشعر، وان الشعر محمي في المكان.
يناديني صوت الكاتب عدنان السمان الذي رحل قبل بضعة شهور مشبعاً بذكريات نابلس، احاول التقاط انفاسي وأنا استرق لحظات من هدنه، لعلني اتحرر قليلاً من حمى الانفعال. انزوي في مقهى، فتتحوطني سيقان النراجيل المزروعة في ارض مبلطة منقوشة بريشة الزمان، تقتحم ذهني آراء نقدية للدكتور عادل الاسطه، وانصت لصوت محمد حلمي الريشه، يقص لي شعراً، قصة صبية رفرف عصفور قلبها لأول مرة بين جدران بيت يختلس النظر الى السوق.
وما ان انتهى الريشه، حتى وجدتني مغموراً بياسمين نابلس نثره عليّ شعراً ونثراً لطفي زغلول، فانهض من مكاني ، اغادر المقهى مملوءاً برائحة معصورة من نكهة الاسطورة.
وعندما هممت بمغادرة نابلس، انتشلت نفسي انتشالا من المكان، نجحت في انتزاع جسدي بصعوبة من صفحات ارضها وسمائها لاعود الى حيث يجب ان اعود، فيتمرد عليّ قلبي، ويقرر المكوث في العراقه. اعود فيزيائياً، لكن القلب يقرر ان ينبض هناك، اسلم للأمر واقر معترفاً بواقع الحال، فلا فرق إن ظل ينبض هناك، لأن هناك هنا، ولان هنا في رام الله موصول روحياً بهناك في نابلس القديمة.
تصميم وتطوير: ماسترويب 2016 |